ليس خافيا على أحدٍ من المتابعين (ولا غير المتابعين) أن الصراع الدائر بين تيارات مصر السياسية وجماعاتها هو صراع على مستقبل الدولة المصرية بعد ثورة يناير. صراع حول شكل المجتمع وهوية الدولة، وهي القضية التي تجلّت في أيهما أولا: الانتخابات كما اختار غالب الشعب، أم الدستور كما تنادي بعض الأصوات. وليس خافيا على أحدٍ من الناس أن مصر يقسمها تياران كبيران بصرف النظر عن نِسَب كل تيار؛ وإن كان الطرف الذي اعتبر الاستفتاء بنعم تفويضا له كثيرا ما يلحّ على قضية النسبة ويعتبرها فصل الخطاب في ضرورة أن تكون الانتخابات أولا. وليس خافيا على أحدٍ أن الفريق الأقل الذي جاهد جهادا مريبا حتى يحمل الناس على التصويت بلا باعتبار أن الدستور أولا هو السبيل الأسلم في بناء دولة ديمقراطية، رغم أن المشاغبة المستمرة على نتيجة الاستفتاء هي ضد الديمقراطية بداهة، وتصريحاتهم المتواترة عن عدم وعي الشعب وأنه قد غُرِّرّ به من تيار معين هو أكثر من سوء أدب وأكثر من غرور ذات بل هو ممارسة حقيقية لدور الوصاية على الناس، مع ما يمثله ذلك من مصادمة لأهم مبادئ الديمقراطية وهو الإيمان بحق الناس في الاختيار واحترام نتائج اختيارهم، والأكثر من ذلك هو الإيمان برشد الناس ووعيهم وقدرتهم على التمييز ومعرفة تداعيات ما يختارونه، حتى وإن أخطأوا الاختيار فعليهم تحمل نتائج ما اختاروا. وليس خافيا على أحدٍ من الناس أن الفريق الذي كان يحرّض على التصويت بلا في الاستفتاء يخاف من خوض انتخابات لا تزوير فيها ولا بلطجية ولا شراء أصوات ولا تربيطات مع حزب الحاكم على النسب التي من الممكن أن تترك لمن يمثل على الناس دور المعارضة؛ وهو يعلم أن النتائج والأشخاص الفائزين قد أعدت سلفا في مقرات أمن الدولة وبالترتيب مع رئاسة الجمهورية، إلا ما رحم الله الشعب وخرجت بعض الدوائر عن منطق الحسابات أو اختلفت الترتيبات. هذا الفريق الذي يحسب نفسه النخبة وصفوة المجتمع وأنه أحق بتصريف الأمور؛ يعلم يقينا أنه لو نزل انتخابات حرة ليس فيها تزوير ولا شراء أصوات لن يكون له فيها نصيب، لأنه ليس لأغلبهم (على الأرض وبين الناس) واقع؛ وكثير منهم نخب فضائية (نسبة للقنوات التي يرفعون فيها أصواتهم عاليا ثم يذهبون إلى بيوتهم وقد ظنوا أنهم قد جاهدوا جهادا كبيرا). ويظن هذا التيار الذي قاد التصويت بلا على الاستفتاء (وهو الإثم الذي في بعض الظن) أن التيار السائد (الذي قاد التصويت بنعم) والذي غالبا سيفوز في الانتخابات سيشكل الكتلة الحرجة في البرلمان القادم وهو من سيحدد اللجنة التي ستضع الدستور؛ وبالطبع يخاف تيار الأقلية أن تتشكل الدولة على غير ما يريدون، أو ما تتطلب مصالحهم الفكرية والمادية. لكن الظن بأن الفائز في الانتخابات القادمة سيكون فصيلا واحدا من تيار معين هو ظن غالبه الإثم وليس بعضه. وذلك لأنه يقيس ما سيأتي من انتخابات على ما كان يتم في ساحة العمل السياسي ويطلق عليه انتخابات برلمانية، وبينهما بُعدَ المشرقين. فقياس ما هو آت على ما مضى قياس مع الفارق كما يقول الأصوليون. فالعمل السياسي قبل ثورة يناير كان يفسده الاستقطاب الحاد بين أمرين أحلاهما مرّ، فكان الناس يختارون ما يتصورونه أقل مرارة؛ وكان هو الاختيار في المتاح والممكن. ونادرا ما تشكل القناعات الفكرية والمشروعات النهضوية أي نصيب في الاختيار. وفي هذا العمل السياسي الذي يشكّل الاستقطاب الحاد عموده الفقري كانت الناس كثيرا ما تصوت "تصويتا عقابيا" كما يطلق عليه في أدبيات العلوم السياسية. كان الناس يختارون أي مرشح ضد مرشحي الحزب الوطني وكان يصب هذا الاختيار في مصلحة هذا الفصيل، فيزداد الاستقطاب تكريسا. أما الانتخابات القادمة فلا أحسب أنه سيكون فيها تصويتا عقابيا، ولن يكون الناس مخيرين بين حدّين بل سيرون أمامهم كل ألوان الطيف الفكري والسياسي، حتى من كان يحرّم العمل السياسي (والانتخابات التشريعية تحديدا) سيخوض الانتخابات بعد أن شكّل أغلبهم أحزابا سياسية. ولن يكون هناك شراء أصوات بالشكل الذي كان يحدثه غلبة نزول ما يسمى برجال الأعمال (وهم ليسوا إلا سماسرة) وربما كانت الانتخابات البرلمانية القادمة أول انتخابات سياسية بمعنى الكلمة منذ انقلاب يوليو 1952. أمران أحسبهما مخرجا لأزمة الصراع الدائر بين التيارات السياسية: أمّا الأمر الأول: فهو منهج التكتلات والائتلافات وإتباع إستراتيجية الحد الأدنى، والعمل في المتوافق عليه، وسياسة بناء التوافقات الاجتماعية؛ (وقد فصلت كثيرا في هذا الأمر في مقالات سابقة). أمّا الأمر الثاني: فهو اتباع سياسة لا غالب ولا مغلوب، وعدم ممارسة العمل السياسي بمنطق الاستحواذ وانتهاز الفرص وإقصاء المخالفين، والاستفراد بالساحة. دعونا نخرج الانتخابات القادمة من كونها صراعا على مستقبل البلد إلى العمل بمنطق "الجولات" في العمل السياسي، جولات تحتمل المكسب والخسارة، والجولات السياسية سجال، المهم من يلق قبول الناس لا يغلق باب العمل السياسي وراءه، ولا يشكل الدولة على مقاسه. ودعونا نخرج الانتخابات القادمة من منطق "المباريات الصفرية" التي يخرج الخاسر فيها من الحلبة تماما، ويستحوذ المنتصر على كل شيء؛ كفانا أكثر من نصف قرن من سيادة منطق الاستحواذ، حتى هلكت مقدرات الدولة، ونضب كيانها الاجتماعي. ودعونا نبني على أساس أن استفتاء 19 مارس (وهو أول استفتاء تشارك فيه أغلبية الشعب المصري وهناك إجماع على نزاهته) قد قال الشعب فيه كلمته بمطلق حريته التي لم تشوبها شائبة، وأي عملية التفاف حوله إنما هي إهانة بالغة للشعب المصري غير مقبولة شكلا ولا مضمونا. ودعونا نتفق أن خوف تيار الأقلية من كون الانتخابات أولا هو خشيتهم من: أولا: أن لا يكون لهم تمثيل معتبر داخل الهيئة التأسيسية التي ستتولى إعداد الدستور. ثانيا: أن تتم عمليات إقصاء لهم من مجمل العملية السياسية. ثالثا: أن تتم عملية إعادة تشكيل الدولة المصرية بما لا يتيح لهم مكانا فيها. وإذا كانت المؤسسة العسكرية هي من يحمي التجربة الديمقراطية فلا خوف إذا من اختطافها أو مصادرتها من أي تيار، والمؤسسة العسكرية ممثلة في كثير من أعضائها قد أكدوا احترامهم الكامل لنتيجة الاستفتاء، وما اختاره غالب الشعب المصري وهو الانتخابات قبل الدستور. وأحسب أنه على مختلف فصائل من يمثل التيار الأساسي في الشعب المصري (وهو التيار الذي صوت له الشعب بنعم) أن تعمل على جبهتين على التوازي: الأولى: إزالة المخاوف وتبديدها (حتى وإن كان مبالغا فيها) عبر حوار مجتمعي جاد. والثانية: بلورة بعض الضمانات السياسية عبر بناء توافق اجتماعي وسياسي على جملة من المبادئ التي يمكن أن تشكل مبادئ عامة لإعداد الدستور (كهوية الدولة: دينها ولغتها وشريعة الغالبية العظمى من الشعب) المتعين احترامها من جميع الفرقاء، ونخرجها من دائرة المناكفة السياسية. ولا مكان هنا للمصادرة التي يمارسها بعض من اعتبر الاستفتاء تفويضا على بياض من الشعب، ولا للإرهاب الفكري الذي تمارسه بعض الكائنات الفضائية وشبّيحة الإعلام: قنواتا وصحفا.