كما كان متوقعا فاز حزب العدالة والتنمية بالاغلبية في الانتخابات البرلمانية التركية، لم يحصل الحزب على 99,9% من الاصوات كما يحدث في الدول الشمولية، ولم يهيمن على كل مقاعد البرلمان على طريقة احزاب السلطة العربية، لكنه فاز ب 50% فقط من اصوات الناخبين، واصبح بمقدوره تشكيل الحكومة منفردا للمرة الثالثة دون التحالف مع احزاب اخرى. صحيح ان "العدالة والتنمية" لم يحصل على أغلبية الثلثين التي تؤهله لوضع دستور جديد، وصحيح ان نصيبه من المقاعد في البرلمان تراجع من 341 مقعدا الى 326 مقعدا، لكن رصيده من الاصوات ارتفع من 47% في انتخابات 2007 الى 50% في حين حصل منافسوه : حزب الشعب على 26% من الاصوات والحركة القومية اليمينية على 13% والمرشحون الاكراد المنتمون لحزب السلم والديمقراطية علي 6%. هذا الفوز الكبير لم يتحقق بالتزوير وتقفيل الدوائر، ولا بالقمع واهدار الحريات العامة، ولا بخطف الصناديق واعتقال المرشحين المنافسين ومندوبيهم، وانما جاء في ظل الاحتكام الى الديمقراطية، وبفضل الانجازات التي حققها الحزب لتحويل تركيا من دولة غارقة في الديون والفساد الى قوة اقتصادية وسياسية كبري. في يوليو 2002 حصل حزب العدالة على الاغلبية في اول انتخابات برلمانية خاضها بعد تاسيسه وفي مارس 2003 شكل اول حكومة له برئاسة رجب طيب ارودغان، في ظل ازمة سياسية واقتصادية طاحنة ، فالعملة الوطنية كانت منهارة والدين الخارجي يلتهم 78% من الناتج المحلي الاجمالي ونسبة التضخم تتجاوز 150% والبطالة لا تقل عن 31 % . استلم الحزب الحكم في وقت كان سياسيون ورجال اعمال قد نهبوا من البنوك التركية ما قيمته 46 مليار دولار هربوها الى الخارج، فقررت حكومة اردوغان مصادرة اموالهم وممتلكاتهم ومصانعهم ويخوتهم ومصانعهم، ثم قدمتهم الى المحاكمة في عملية تطهير واسعة بدات في عام 2003 ولم تتوقف حتى الآن! لم ترفع حكومة العدالة والتنمية اي شعار اسلامي، ولم تدخل في معارك ايديولوجية او عقائدية، فقد كان هدفها اقامة دولة متقدمة وعصرية في اطار القيم الاسلامية، لذلك ركزت على خدمة ملايين الاتراك الذين يعانون الفقر والجهل والمرض، وبدات في تنفيذ مشروع للنهوض بتركيا اقتصاديا وسياسيا وعلميا وتكنولوجيا، وترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الانسان والسعي للانضمام الي الاتحاد الاوروبي والانفتاح على كل دول الجوار والعالمين العربي والاسلامي وفي عام 2004 تمكنت الحكومة من خفض نسبة التضخم من 150% الى 9% ونسبة الفائدة على القروض البنكية من 56% الى 15% ورفع قيمة الليرة من 0,02 الى 1,5 دولار امريكي ومضاعفة متوسط دخل الفرد من 2500 الى 6000 دولار سنويا (يتوقع ان تصل الى عشرة الاف دولار قبل عام 2014) وزيادة الصادرات من 36 الى 114 مليار دولار وخفضت الديون المستحقة لدي صندوق النقد الدولي من 24 الى 6 مليارات دولار كما انشات حكومة العدالة والتنمية 280 الف شقة للعائلات الفقيرة باقساط ميسرة ضمن خطة لاقامة نصف مليون وحدة سكنية ووزعت أطنانا من الفحم مجانا على الاسر الفقيرة في المناطق الباردة وانشات 39 جامعة جديدة وفتحت ابواب المستشفيات العامة امام الشعب وقدمت تسهيلات لعلاج الفقراء في المستشفيات الخاصة ووزعت الكتب مجانا على الطلاب في مرحلة التعليم قبل الجامعي وفي مجال الحريات ركزت على تحسين السجل التركي في مجال حقوق الانسان وحظرت التعذيب في اقسام الشرطة واعترفت بحق التظاهر السلمي واصدرت قانونا يمنح المواطن حق الحصول علي المعلومات ومنحت الاقليات حق التعلم بلغتهم واصبح بمقدور الاكراد البث التليفزيوني واصدار صحف ومجلات باللغة الكردية. ورغم العلاقة الاستراتيجية مع امريكا (تركيا عضو في حلف الاطلنطي منذ عام 1952) رفضت حكومة العدالة والتنمية السماح للقوات الامريكية باستخدام المجال الجوي التركي في ضرب العراق رغم العرض الامريكي بالغاء 6 مليارات دولار هي اجمالي ديونها العسكرية كما رفضت اي مخطط لتقسيم العراق وانشاء دويلة كردية في شماله. ورغم العلاقات مع اسرائيل (يرجع تاريخها الى عام 1949) فقد اعترضت حكومة اردوغان على الحرب الاسرائيلية على لبنان والحرب على غزة واحتدم الخلاف بين البلدين بسبب الدفاع التركي عن الحقوق الفلسطينية وارسال سفن الحرية لكسر الحصار المفروض على غزة. باختصار نجح العدالة والتنمية في تحويل تركيا الى قوة اقليمية كبري، كما حولها الى نمر اقتصادي يحتل المركز 16 عالميا بنسبة نمو تصل الى 8,7% سنويا، ويخطط للحصول على المركز العاشر عالميا بحلول عام 2023، وقد زرت تركيا في عام 2006 ورايت كيف نجح الحزب في تحقيق التعايش بين الاسلام والديمقراطية من خلال ترسيخ قيم الحرية والعدالة والمساواة والتعددية والفصل بين السلطات والاحتكام الى صناديق الانتخاب والاعتراف بقيم الحرية وحقوق الانسان. بالطبع لم تحقق تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية كل احلامها، لكن "العثمانيين الجدد" حققوا فيها ما يمكن وصفه بالمعجزة، ومازالت امامهم تحديات لايجاد حل نهائي للمسألة الكردية، وتحسين السجل التركي في مجال الحريات العامة وحقوق الانسان بما يتفق مع المعايير الاوروبية، ومعالجة الفجوة القائمة بين الاغنياء والفقراء، ووضع دستور جديد يعطي السلطة للشعب وليس لأي قوة اخرى! مبروك لحزب العدالة والتنمية التركي فقد حقق في عشر سنوات ما فشلت في تحقيقه كل احزاب السلطة العربية خلال نصف قرن رغم الاغاني والشعارات والوعود الكاذبة!