لعل أهم ما أسفر عنه مهرجان الخطب الأميركية والإسرائيلية الأسبوع الماضي، هو أنه كشف بوضوح عن أن الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل تعيشان في عالم وحدهما، ولم تستوعب أي منهما بعد حجم الزلزال الذي حدث في العالم العربي، والتأثيرات العميقة التي سيحدثها في خريطة المنطقة. فقد بدأ المهرجان بخطاب لنتانياهو في الكنيست، تمهيدا لزيارته لواشنطن، حدد فيه بكل غطرسة «الشروط» التي يمكن عليها بناء «قبول» إسرائيل بالدولة الفلسطينية. ثم جاء خطاب أوباما ليتبنى الأغلبية الساحقة من مطالب نتانياهو. ثم جاء خطاب أوباما أمام إيباك لوبي إسرائيل في واشنطن ليقدم المزيد من الدعم لإسرائيل، ثم تلا ذلك خطابان لنتانياهو، أحدهما أمام إيباك والآخر أمام الكونغرس الأميركي بمجلسيه. ومن يتابع كل تلك الخطب، يلمح بوضوح أن المنطقة العربية قد تجاوزت نوعية الخطاب الأميركي والإسرائيلي، اللذين باتا قديمين وتقليديين لا يأخذان في اعتبارهما أن موازين القوى في المنطقة قد تغيرت. فالولاياتالمتحدة صارت في أضعف مراحل نفوذها في المنطقة، لأسباب عدة؛ منها تورطها في احتلال بلدين كبيرين وبؤس موقفها تجاه الثورات العربية من أجل الحرية والكرامة. ولعل أهم تجليات انحسار النفوذ، هو أن ما يجري في العالم العربي لم يعد تحركه الولاياتالمتحدة ولا إسرائيل، ولم تعد رغبات البلدين هي التي تحدد الممكن والمستحيل في بلادنا. فمن المعروف مثلا، أن إسرائيل عملت بكامل طاقتها للإبقاء على نظام مبارك ضد إرادة المصريين، وأميركا لم تكن تمانع في بقائه، طالما أن هذا البقاء لا يحدث بفضيحة كبرى يستحيل معها على الولاياتالمتحدة الدفاع عن ذلك الحليف. لكن لا الإرادة الإسرائيلية ولا الأميركية، هي التي حددت مصير نظام مبارك. وقس على ذلك في بلدان وقضايا أخرى، بما في ذلك خروج الفلسطينيين إلى حدود إسرائيل مع مصر والأردن وسوريا، رغم الوحشية الإسرائيلية، بل والاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة المنتظر في سبتمبر القادم. ومن هنا، بدا ما يجري في واشنطن مقطوع الصلة تماما بالواقع الفعلي، كأنك تشاهد أحد أفلام الأبيض والأسود التي تحكي عن واقع الثلاثينات أو الأربعينات من القرن العشرين. وللأمانة، ورغم تبنيه بالكامل للموقف بل وللمنطق الإسرائيلي، فإن أوباما بدا أفضل قليلا في فهمه لمعنى التحولات الكبرى في المنطقة، بالنسبة لإسرائيل. فهو يدرك أن العرب الذين ثاروا من أجل الحرية والكرامة، لن يقبلوا طويلا القمع والإذلال الإسرائيلي للفلسطينيين. وهو يفهم أيضا أن انتفاض المنطقة لن يستثني إسرائيل. ومن هذا المنطلق، أي القلق على مستقبل إسرائيل، تسعى أميركا لتحقيق حل الدولتين قبل أن يصبح مستحيلا نتيجة الاستيطان، فتضطر إسرائيل لحل الدولة الواحدة، التي إما أن تكون دولة أبارتيد تعامل العرب فيها كأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، أو تعطي كل مواطنيها حقوقا متساوية وهو ما يعني نهاية دولة المشروع الصهيوني، لأن العرب سيمثلون أغلبية في تلك الدولة، وهو ما يمثل خطرا على المصالح الأميركية ذاتها. لكن أوباما، رغم هذا الإدراك للواقع على الأرض، إلا أنه يتبنى المنهج نفسه في التعامل مع إسرائيل. فهو يعلن عن «دعم أميركي لا يتزعزع» لإسرائيل، بينما حكومتها ترفض عمليا قيام الدولة الفلسطينية. وبينما يرى أوباما أن للثورات العربية تأثيرا بالضرورة على إسرائيل، إلا أنه لم يستوعب بعد أن منهجا أميركيا مختلفا يتحتم تبنيه في التعامل مع تلك الثورات، بدلا من منهج التعالي على الشعوب العربية وحكوماتها، بل والتعامل معها وكأنها لا تستحق الندية والاحترام. وقد تجلى هذا المنهج بوضوح، في أن الولاياتالمتحدة تتحدث مع نفسها أو مع إسرائيل عنا نحن العرب. وهي تشخص واقعنا وتبحثه وتحدد المناسب لنا من إجراءات ومساعدات، دون دعوة العرب أصلا. وفي حين ألقيت أربع خطب في أسبوع واحد عن فلسطين، وجرت محادثات مطولة بشأنها بين الإسرائيليين والأميركيين، إلا أن الولاياتالمتحدة لم تكلف نفسها عناء حضور الفلسطينيين أنفسهم. فمصير فلسطين وفق هذا المنهج، يحدده الإسرائيليون والأميركيون، لا الفلسطينيون! لكن مع كل ذلك، يظل أوباما أقل غطرسة من نتانياهو، بل ومن الكونغرس الأميركي. فنتانياهو استخدم خطابه أمام الكونغرس ليعلن عن لاءات كثيرة تنسف أي دعوة للتسوية السياسية، فلم يلق من أعضاء الكونغرس سوى التصفيق الحاد والوقوف المتكرر احتراما لما يقول! فنتانياهو قال «لا» لعودة اللاجئين بالمطلق، ولتقسيم القدس، ولحدود 1967، بل ولا أيضا لوحدة الفلسطينيين ولانسحاب الجيش الإسرائيلي من غور الأردن. وهي لاءات تنفي الحاجة أصلا لأي تفاوض. فما الذي سيتم التفاوض عليه يا ترى، لو أن كل ما سبق ليس محل نقاش أصلا كما تريد إسرائيل؟ ثم عاد نتانياهو لبلاده لتعتبره إسرائيل قد حقق انتصارا مؤزرا في غزوته لواشنطن، حيث حصل على تأييد بلا حدود ولا شروط، من المؤسسة التشريعية الأميركية ومن لوبي إسرائيل في واشنطن، كما أنه حصل حتى على دعم الرئيس الأميركي نفسه، بدءا من تبني وجهة النظر الإسرائيلية ومرورا بالتعاون الأمني غير المسبوق، وصولا إلى الدعم الأميركي لبرنامج الدفاع الصاروخي الإسرائيلي، المعروف باسم «القبة الحديدية». إلا أن الطريف في هذا كله، هو أن الحقيقة التي لم يستوعبها بعد نتانياهو، بل وحتى أوباما، هي أن الفعل الحقيقي في المنطقة لم يعد يتحدد في واشنطن، وإنما يتحدد هنا في العالم العربي. نقلا عن البيان: