شهدت المحروسة على مر أسبوع كامل عدة تفجيرات إرهابية استهدفت منشآت حكومية ومرافق مدنية وبالقطعية رجال مصر الأبرار الذين يصرون على استكمال مهمتهم في قطع دابر وأواصر الإرهاب البليد الذي ينتمي كالعادة إلى فكر أكثر بلادة . وكم هو محزن أن يفكر هؤلاء الذين يحسبون كرهاً على تيارات الإسلام السياسي بأن مصر ستغفر لهم حماقات الصبية ، ولأن العقل الذي يفكر ويدبر بهذه الطريقة يتسم بالبلادة ومن ثم الانقطاع المستغرق عن واقع مشهود ومعاش فللمرء أن يتصور وفق تصرفاتهم التي تبدو حمقاء ماذا لو نجحت بلادة التصرف في اقتناص حكم مصر من جديد ؟ وهو أمر ينبغي للقاصي والداني أن يأخذ هذه الفرضية مأخذ الجد لا كما حدث من قيادات أمن مصر من تراخٍ واستهتار عقب بيان أجناد مصر والذي انتهى بالفعل من خلال استشهاد رجلين من رجال وزارة الداخلية في أثناء تأدية عملهم ، بعض التنظيمات بالتأكيد تعمل الآن تحت الأرض كعادتها وسنة قياداتها لأن النور سنة كونية تخالف منهجهم ، وهذا العمل السفلي نسبة للأرض وأسفلها يسعى إلى عودة الاقتناص من جديد سواء من خلال انتظار فوضى واضطراب يعمان البلاد وشئون العباد ، أو حالات من اليأس التي تعقب هزيمة عسكرية ، أو سقوط نظام سياسي عتيق وعتيد ، فتلك هي الظروف السانحة لأي تنظيم سفلي كي يصعد صوب سدة الحكم . ومخطئ من يظن ويستغرق في ظنه بأن مجرد قيد حرية قيادات أي تنظيم متطرف قد يقلل من حدة مشكلة الإرهاب في مصر ، لأن المشكلة الحقيقية ليست في مواجهة الأفراد أو قيدهم رهن الحبس ، بل تقبع في مواجهة الفكرة ومحاصرة الأفكار ، فمصر اليوم لا ينبغي أن تتعامل مع الإرهاب بوصفه سيفاً وبندقية كما الحال في مواجهة وملاحقة الخارجين عن القانون في شبه جزيرة سيناء لا أعني التكفيريين بل تجار الأسلحة والمواد المخدرة التي تقوض شباب هذا الوطن ، بل عليها بمؤسساتها الثقافية ومنابرها الإعلامية التي كانت في يوم من الأيام السالفة منارات متوجهة ثقافة وإبداعاً وريادة وذات تأثير عميق في المنطقة العربية أن تتعامل مع الفكرة التي ظلت راسخة بفضل اللعب على الأسماع والتلاعب بالعقول الذي دغدغ البسطاء بأن مصر تسير نحو هاوية السقوط الديني وأن بدعها طغت على مناقبها ومآثرها ، وهذه الأفكار وغيرها لا تزال حبيسة عقول العشرات من مريدي بعض التيارات التي آن الآوان لمراجعة أفكارها . ومصر اليوم التي تدعي التماسك وتقارب الرأي والفكرة هي أقرب ما تكون إلى رجل مريض بالفصام أو ازدواج الشخصية ، بين نمط سوي يأمل في غد أفضل له ولذريته في المستقبل مع وعي شديد بأعباء الحاضر وتحديات المستقبل ، لكن الوعي بالمرحلة هو الذي سيساعد أبناء هذا الجيل المضطرب سياسياً في العبور نحو شاطئ الاستقرار .وربما سقوط نظام مبارك السياسي وما أعقبه من تداعيات تتصل بمناحي التعليم والفكر والثقافة عموماً كشف لنا عن عورة أزمتنا الراهنة ، ألا وهي هوية التعليم التي ظلت غائبة عن المشهدين السياسي والثقافي ، لذا وجدنا كثيراً من الشباب يفتقد بوصلة التوجه إلى الشواطئ الفكرية الآمنة ، فبين فصيل هرب بمشكلاته بعيداً صوب أفكار وتيارات دينية المظهر وسياسية الجوهر ظن بعضهم أن مجرد فكرة الانتماء إلى تلك التيارات بديل ناجع لتعويض الإخفاق في حل مشكلاتهم ، وفصيل آخر فقد الرمز الذي ينبغي أن يلتفوا حوله فتمرمغوا بين ألف وجه ووجه سياسي ورياضي واجتماعي وفني علهم يجدون ضالتهم ، وهؤلاء وهؤلاء كان معهم الحق في الاختيار حينما كان التعليم قاصراً عن التوجيه والإرشاد. وأزمة الفكر الراهنة تشبه اختلال التوازن الذي حدث في عهدين من عهود مصر السابقة ، العهد الأول حينما اهتم محمد علي باشا بفنون الصنائع وإحياء الدولة المصرية عسكرياً وتكنولوجياً وبإرسال البعثات لتعلم الطب والهندسة ، والعهد الثاني كان من حظ الخديو إسماعيل الذي اهتم بالجانب المعنوي من الحضارة كالعلوم الإنسانية والموسيقى وما يتعلق بتربية الوجدان وصياغة العقول ، وكانت النتيجة طغيان جانب على آخر الأمر الذي أدى إلى انهيار العهدين ، وكانت الضحية الرئيسة وقتها المواطن الذي فقد مصريته وأصبح اختياراً قومياً لحاكمه فقط . ومنذ تلك الحقبتين تحديداً والتيارات الفكرية لاسيما الدينية واللادينية صارت تفتش عن ذاك المواطن المهيأ لإعادة تصنيعه ومن ثم تعبئته بفكر وأيديولوجية جديدة. وأصبحت حركة التمصير بعد مشروعي محمد علي وحفيده إسماعيل متأرجحة على الدوام ولا تظهر إلا في وقت النكبات أو الأزمات وهذا يعكس غياب المشروع التعليمي النهضوي الذي يؤدي إلى نتيجة حتمية وإيجابية وهي التنوير اللهم سوى قفزات طارئة على أيدي بعض النابهين مثل رفاعة الطهطاوي والإمام المجدد محمد عبده وعلي مبارك وطه حسين ، وبغياب الأخير يمكننا رصد نهاية مشروع التنوير في حياتنا الثقافية والتعليمية . ولكي نقر بغياب التنوير الحقيقي في حياة مصر الحديثة والمعاصرة ، علينا الاعتراف أولاً بأننا بدءاً من عهد النهضة الأولى على يد محمد علي باشا ونحن نحاكي نماذج التجديد من قشرته الخارجية دون الاكتراث بجوهر فكره وعقيدته ، بل الأخطر في هذه المحاكاة أنها بالفعل مدانة ومتهمة على الدوام بالتقليد دون حرص هؤلاء المجددين إيجاباً أم سلباً بفكرة تجديد مصري خالص الصبغة والمذاق ، فالتيارات المدنية التي أحياناً توصف بالعلمانية لم تكن ذات طابع مصري فطري ربما لأنها تخالف كثيراً الفكر التربوي والتعليمي القائم لذلك حرصت منذ النشأة على استيراد أفكار ونظريات وطروحات فلسفية توهم مريديها بأن تلك الأحاجي والأقاصيص المنثورة بكتابات الليبراليين هي جنة الفكر وروضة التنوير ، والتيارات الدينية التي ضربت مصر طولاً وعرضاً منذ التمسح الديني المتقطع للملك فاروق الأول وحتى الأيام الراهنة وجدناها تنظيمات سياسية أكثر منها دينية التي ينبغي أن تتضمن فكراً لذلك رأيناها تقتبس كثيراً من طروحات الوهابيين أو تعتمد على آراء الفرق والمذاهب الدينية التي اصطبغت بألوان السياسية الوافدة من الهند وباكستان على سبيل المثال لذلك اهتمت تيارات مصر الدينية بالتقليد والمحاكاة في المظهر طعاماً وملبساً ومأكلاً ونظم معيشة اجتماعية ، وبين الشاطئين العلماني الأوروبي والديني المقلد غاب التنوير والتجديد ، وبات أمر التعليم حائراً ولا يملك فرصة حقيقية للتوجيه بل أصبح مصلاً وعقاراً يعالج مثالب التيارين . ثمة ملمح آخر يؤكد غياب التنوير الذي ظل لفترة ما في تاريخ مصر غواية وفتنة إما أن يعاقب المرء بشأنها أو لابد التنصل من براثنها الضالة ، وهو أن معظم الطروحات التي دعت إلى التجديد الثقافي سواء من زاوية دينية أو مدنية أو من خلال نظام سياسي حاكم أنشئت وبزغت فجأة دون موعد سابق بالإضافة إلى أنها جاءت لعصرها ولتبني رسالة معينة لفترة قصدية دون الاهتمام بالاستمرارية أو استهداف المستقبل ، وربما جماعة الإخوان المسلمين وحدها جماعة دينية قبل أن تستقيل لتمارس أدوار سياسية أدت بها إلى السقوط المفاجئ والنهائي أيضاً هي التي سعت أن تحافظ على الاستمرارية لكنها لم تسع إلى التجديد أو التنوير بل ربما من عوامل انهيارها سياسياً أنها لم تتعامل مع واقع مشهود بأدواته الحالية ولم تقم كالجماعات الإسلامية بمراجعات فقهية وأيديولوجية لقواعدها ورواسيها . وإذا أراد المواطن المصري أن يؤرخ لفترات الغياب الثقافي في حياتنا المعاصرة فعليه أن يرصد حركات الإصلاح التي أداها كل تيار ثقافي أو ديني أو سياسي كان سائداً في عقد تاريخي معين ، فكافة التيارات الثقافية كانت مهمومة بقضية علاج المجتمع من أمراضه وهذا بالقطع كان من وجهة نظرها وتوجهها الفكري ، وبالتالي اتسمت هذه النظرة بالسطحية والاضمحلال دون العمق والبصيرة النافذة فغاب عن أجندتها مفهوم الإصلاح الوجه الآخر والمرادف للتنوير ، وكم من تيار ديني أو سياسي أو ثقافي بوجه عام أطل علينا منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير وهو يؤجج مشاعر البسطاء بالحديث عن فساد الأنظمة السياسية وبطلان عقائد المخالفين ومساوئ الأفكار المستوردة دون حديث واضح ومباشر عن إصلاح مقصود لا يرتبط بحياة يومية تنقضي بانتهاء الليل إنما طرح فكري يستهدف الإصلاح لغد قريب أم بعيد . لكن في ظل هذا الغياب الثقافي ربما المتعمد من قبل الحكومات المتعاقبة أو المؤسسات والتيارات السياسية والدينية غير الرسمية وكذلك الحركات التي اتخذت من كلمة التجديد علماً لها ، ظلت الصحافة ولا تزال تحمل هاجس التنوير والتجديد ، ورغم أنها عادة ما توصف بأنها عين الشارع إلا أنها في كثير من الأحايين تلعب دوراً تجديداً وإصلاحياً يتسم باستشراف المستقبل ، ومن أجل هذا التأريخ لواقع التنوير الثقافي في مصر فإن الصحافة اليوم سواء أكانت ورقية أم إليكترونية تسهم بشكل ملحوظ في أداء رسالة التنوير والتجديد بغير تقليد أو محاكاة ، وربما لأن مشهد التجديد غاب عن فكر المؤسسات بصورة لا تخطئها العين ، فإن الصحافة استطاعت بذكائها والتصاقها بنبض الشارع ومن ثم عقل المواطن في التقاط هذا الطرف ألا وهو التجديد والإصلاح ، فنجد اليوم عشرات الصحف التي تحوي مئات المقالات والتحقيقات والحوارات الصحفية التي تستهدف إصلاح الواقع وتجديد المستقبل فكراً وتعليماً مستخدمة في ذلك كل أدوات الاجتهاد من ناحية ، واستلاب الكثير من العقول التي تتمخض عن فكر واعٍ وشعور بالوطن . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.