كشف تطور الانتفاضات التي تشهدها العديد من أقطار العالم العربي حدود السياسة الخارجية التركية في هذه المنطقة، تمامًا كما كشفت الانتفاضة في سوريا على مدار الأسابيع الماضية عن حدود النفوذ التركي في البلاد. حيث لم تستطع السياسية الخارجية التركية التأثير على النظام السوري من أجل تغيير معالجته الأمنية للاحتجاجات التي تشهدها أرجاء سوريا. في سياق بداية الانتفاضات الشعبية في تونس و مصر، بدا وكأن هذه التطورات فرصة مهمة للسياسة الخارجية التركية لتصدّر المشهد السياسي العربي، وتدعيم قبولها لدى الرأي العام في المنطقة، وتقديم نفسها كنموذج يحتذى للشعوب العربية في التنمية السياسية والاقتصادية، وبالفعل فقد كادت أن تستفيد من الوضعية العربية الجديدة، بتجاوبها الإيجابي والمبكر مع مطالب هذه الشعوب. إلا أن امتداد الاحتجاجات إلى ليبيا ومن بعدها سوريا كان أول تحدي حقيقي للسياسة الخارجية التركية ولخطابها، حيث بدا التردد في انتهاج مسار التبني الكامل والواضح لمطالب الجماهير العربية أمام نظمها الاستبدادية. وقد ظهر أن الاحتجاجات امتدت إلى بلدانٍ، مثَّلت مصالحها فيها عائقا أمام تجاوبها مع حركة الاحتجاجات السياسية فأربكتها، و صدرت رسائل إما غير واضحة أو واضحة ،ولكن متأخرة. والحقيقة أن السياسة الخارجية التركية استندت في مقاربتها للعالم العربي، إلى مبدأ تدعيم الاستقرار، ودافع هذا في الأساس هو الحاجة التركية لأسواقٍ تصرف فيها منتجاتها، وبالتالي لتحقيق نمو اقتصادي مهم لتدعيم مقوماتها كقوة إقليمية. وبالتالي فإن امتداد الاحتجاجات في العالم العربي هو تحدي في ذاته للسياسة الخارجية التركية، وكان التجاوب التركي المبكر مع انتفاضتي تونس ومصر نتيجة عدم وجود أية تبعات سلبية على مصالح تركية في حاجة إلى الاستقرار. وهنا يمكن فهم المعالجة التركية للأزمة السورية، فقد بدأت تركيا الضغط والتشجيع للنظام السوري من أجل الإصلاح، وبيدو أن هذا التشجيع قد بدأ في مرحلة مبكرة وفقًا لما جاء في بعض خطابات الساسة الأتراك. لكن النظام السوري انتهج المسار القمعي بقوة، مما وضع تركيا في حالة حرج أمام الرأي العام الداخلي التركي والعربي والعالمي. بدأ الخطاب التركي يأخذ منحى التحذير من عواقب الخيار السوري، لكن لا يبدو أن إمكانات السياسة الخارجية التركية في الوقت الحالي تسمح بتفعيل اتجاهات هذا الخطاب على الأرض. فحتى الآن لا يبدو أن أحدا من الطرفين يريد تهديد هذه العلاقة، ولكن هذا لا يمنع أنها حاليًّا تقوض بفعل الأزمة السورية. على الأرجح سيبقى النظام السوري، كما أنه من المستبعد أن يقدم هذا النظام السوري على إصلاحات حقيقة وواسعة، وذلك بعد أن يتمكن من قمع حركة الاحتجاجات. ولكن لن يحافظ النظام عل استقراره، فمن الصعب أن تهدأ تمامًا الأوضاع في سوريا. وبالتالي لن تستطيع تركيا أن تستأنف تسيير العلاقات كما كانت عليه أو تطويرها، خاصة بعد حملة القمع التي قادها النظام ضد المحتجين، وتجاهل دعوات الإصلاح الحقيقي، ولكن مع ذلك فخيار إقدام تركيا على قطع العلاقات يبدو أمرًا مستبعدًا، فهذه العلاقة وفرت لتركيا محور ارتكاز للتواصل مع الأطراف في المنطقة ومعالجة عدد من القضايا بما تمثله من أهمية اقتصادية وسياسية. كما أن هذه العلاقات قد تبدو ضرورية لمراكمة نفوذ يمكّنها من الدفع باتجاه تغيير حقيقي في سوريا مستقبلا يفيد الأتراك. وقد يبدو لتركيا أن النظام القائم الآن في دمشق ليس هو الأنسب لمصالحها في سوريا والمنطقة، إلا أنها لا تمتلك حاليا النفوذ المؤثر في اتجاه تغيير أساسي داخل سوريا، بل وقد لاتريد مثل هذا التغيير الآن في سياق مخاطر تدفق اللاجئين، أو الاضطراب في مناطق الأكراد في سوريا، وما قد تعكسه هذه التطورات على وضعية الأكراد في تركيا. لكن على المدى البعيد قد تسعى تركيا إلى دعم بديل للنظام السوري القائم يستند إلى الأغلبية السنية، يصبح أكثر استقرارًا، وأقدر على تأمين العلاقات بينها وبين سوريا. ولعل علاقاتها التي تطورها مع جماعة الإخوان المسلمين السورية تشير إلى مثل هذا الاتجاه، وقد يتدعم هذا التوجه كلما تزايد استخدام العنف من قبل النظام السوري ضد المحتجين، واتجه إلى تنفيذ إصلاحات شكلية أو محدودة، وأصبح أكثر توافقًا مع الإيرانيين الذين دعّموا بوضوح النظام السوري في مواجهة الاحتجاجات التي خرجت ضده. فداء فوزي [email protected]