منذ الإعلان عن المبادرة التي نشرتها في هذه الزاوية نيابة عن قطاع مهم من التحالف الوطني لدعم الشرعية وما أعقبها من انفرادنا بنشر مبادرة الدكتور حسن نافعة التي أعدها بناء على طلب من بعض رموز السلطة والتي نقلها عنا كثيرون بعد ذلك وردود الفعل لا تتوقف حول الموضوع ، وأتصور أنه مفيد للمبادرة ولأطرافها وللبلد كله أن نتوقف عند بعض الملاحظات حول ردود الفعل من كل الاتجاهات ، من مع ومن ضد ، والحقيقة أن الملاحظة الجامعة لردود الفعل التي لاحظتها هي غياب الثقة ، وسيطرة الخيال الواسع لكل الأطراف على هذه المبادرات ، فالجناح المتشدد في تحالف دعم الشرعية نظر إليها بارتياب شديد وشك وصل إلى حد اتهامها بأنها "مبادرة مخابراتية" ، والبعض تكلم بلغة العارفين ببواطن الأمور مؤكدا أن هذه المبادرة هي مبادرة المجلس العسكري في الأساس وأن صاحب هذه السطور قام بنقلها وصياغتها باعتبارها منسوبة لأنصار مرسي ، وبناء على ذلك رتب تصورات عن اهتزاز "الانقلابيين" وبحثهم عن مخرج من ورطتهم ، وكلام طويل عريض على هذه الشاكلة ، وهي كلها أوهام تكشف عن أن العقل الإسلامي أو قطاع منه ما زال أسير التفسير التآمري للأحداث والتطورات السياسية المحلية والإقليمية والدولية ، ناهيك عن "الآفة" التي تتوطن كثيرا من الإسلاميين من سرعة الاندفاع للخوض في الأعراض والسمعة والشرف للمختلف معهم بصورة رخيصة واعتباطية ، على الجانب الآن تحدث أنصار المشير السيسي وخصوم الإخوان ومرسي طويلا عن أن هذه المبادرة تمثل جس نبض من أنصار "المعزول" لمعرفة رد الفعل المبكر للمجلس العسكري تجاه أي خطوات للمصالحة ، وبعضهم فسرها على أنها تثبت أن الإخوان وأنصار مرسي يسلمون بأنهم عاجزون عن إسقاط السيسي أو وقف خارطة المستقبل وأن هذا أتى بعد أن ضعفت قدرتهم على الحشد وأنهم يسلمون بالهزيمة ، وغني عن البيان أن كل تلك خيالات وأوهام هي الأخرى ، فالمبادرة تأتي في وقت يتزايد فيه الزخم الشعبي المناصر لمرسي بوضوح وحراك الشارع وصل إلى خلايا بعيدة ومتناهية الصغر في جذر الوطن ، حتى وصل إلى القرى والنجوع والمراكز البعيدة ، وهذا ما لم يحدث من قبل أبدا ، حتى في ثورة يناير كانت ثورة ميدان التحرير بالأساس ، اليوم الحراك الشعبي ضد السلطة يتمدد في جميع مدن مصر بلا استثناء ويضغط على السلطة القائمة ويحرجها ويرهقها جدا ويورطها في أخطاء قاتلة ، مقابل ذلك تتآكل القوى المتضامنة مع الفريق السيسي بصفة مستمرة بسبب تراجع الحريات وخيانة مبادئ أساسية للثورة ، وتراجع الحماس السابق لما حدث في 30 يونيو ، وتمزقت الجبهة التي شكلت تلك التظاهرات ، وانقلب بعضها بالكامل على السيسي وعلى النظام السياسي كله ، وهو أمر لا يحتاج لتدليل أو شواهد ، وهناك فريق ثالث ممن أشرت لهم بالأمس من الأقليات السياسية والحفريات المتبقية من نظام مبارك بمن فيهم من كانوا يمثلون دور المعارضة ، وهؤلاء أصابهم الجنون بعد الإعلان عن المبادرة مخافة أن تنجح ، وأن تعود الديمقراطية والحريات العامة وسيادة القانون من جديد ، الأمر الذي يعني عودتهم إلى جحورهم على هامش الحياة السياسية . باختصار ، ردود الفعل من الطرفين الأساسيين المعنيين بالمبادرة ، تكشف عن أن الأزمة في جوهرها هي فقدان الثقة في الطرف المقابل ، وكل طرف ربما يدرك في قرارة نفسه أن المشوار طويل إذا أصر على المواجهة ، وأنه لن يستطيع أن يقصي الطرف الآخر في النهاية ، ولكن المشكلة أن كل طرف يخشى الإعلان عن ترحيبه أو قبوله صراحة بأي مبادرات ، خاصة إذا كان بها تنازلات جادة وواضحة ، لأن الطرف الآخر قد لا يتجاوب معها بمروءة سياسية وإدراك لدوافعها النبيلة ، بقدر ما يمكن أن يتعامل معها بانتهازية سياسية لإضعاف موقف المعسكر الآخر وإظهاره في موقف المهتز والباحث عن انقاذ من ورطته الأمر الذي يجعله يدفع ثمنا باهظا من قدراته ويهدر جزءا كبيرا من مصادر قوته بلا معنى ولا مقابل ، كلا الطرفين يخشى تلك الرسالة النفسية والسياسية بوضوح ، وأنا للأمانة لا أعرف كيف يكسر هذا الحاجز أو كيف تبنى جسور الثقة ، وكل ما يقلقني أن يطول أمد الأزمة ، وتتعقد الأمور أكثر ، ثم تفلت الأمور من أيدي جميع أطرافها ، وتتباعد المسافات ، ويصبح القدرة على الحل مستحيلة بدون وساطات دولية ، أو تذكرة سفر إلى جنيف .