للجامعات دور محدد هو تعليم الطلاب وإمدادهم بالأسس العامة للمعرفة، وترسيخ مجموعة من القيم والمبادئ الإيجابية، وتنمية عدد من القدرات والمهارات التي تختلف باختلاف المعارف، هذا بجانب إنتاج البحث العلمي والمعرفة. ويتم هذا، في الدول الحديثة، استنادا إلى رؤية عامة تتبناها الدولة، ترتبط باحتياجات المجتمع ومشكلاته وباستراتيجية محددة لتخريج أجيال مؤهلة لقيادة قطاعات الدولة المختلفة.. أما في بلادنا فجامعاتنا تراجعت.. ووصل بها الأمر إلى استخدام البلطجة ضد الشرفاء والأمناء من أساتذة الجامعة الذين يضحون بمصالحهم الشخصية من أجل الصالح العام.. جامعاتنا صارت أداة لغرس ثلاثية مضلة ومتخلفة ومسؤولة عن تأخر مجتمعنا.. أول هذه الثلاثية: زرع اليأس والعجز واللامبالاة وتحقير الذات بدلا من حفز الطلاب وزرع الأمل في نفوسهم ودفعهم دفعا إلى العمل والإنجاز عن طريق تحصيل المعارف والمداومة على القراءة والتعود على التحليل والتفكير النقدي.. ولهذا يرى بعض أساتذة الجامعات أن "ليس بالإمكان أفضل مما كان"؟ و"إنت تكون مين علشان تفتكر إنك حتغير حاجة"؟ (وأعتذر للقراء الأعزاء عن الكتابة بالعامية)، "خليك في حالك" و"كله عند العرب صابون"؟ ألا تطيل هذه العقليات والممارسات عمر التراجع الحضاري والتخلف بتخريج أجيال خاملة ويائسة وعاجزة؟ ولا يتوقف هؤلاء عند هذا الحد، بل عادة ما يوصف دعاة الإنضباط والمنادين بالتغيير ومقاومة السلبية بالمثالية وعدم الواقعية.. صدق الدكتور زكى نجيب محمود حينما كتب عن مصر ما معناه إن المتأخرين فيها لا يقتدون بالمتقدمين، والمتقاعسين لا يهمون وراء المجتهدين، إنما يبذلون كل جهدهم ليشدوهم إلى الوراء، فيسيروا مع القطيع، ويتساوى الجميع فى الفشل والكسل والإحباط.. ثاني هذه الثلاثية: ترسيخ الخوف والقهر في نفوس الطلاب بدلا من مساعدتهم في بناء شخصية مستقلة تتسم بالمبادأة والتفاعل وممارسة حرية الرأي وإستقلاليته.. وذلك بسبب عادات وممارسات متوارثة لا تخضع للتفكير ممن يمارسها.. وينطبق على هؤلاء قول الحق سبحانه وتعالى: "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" (من الآية 23/الزخرف).. وهذا أسلوب تربوي تسلطي واستبدادي، فالأساتذة ينقلون المعلومات لطلابهم بدلا من تعليمهم كيفية الحصول عليها والتأكد من صحتها ورصد أوجه التحيز المحتملة فيها، ويدربون الطلاب على الإجابة عن أسئلة الإمتحانات بدلا من حفزهم على طرح الأسئلة في المحاضرات.. ويهتمون بالمفاهيم المجردة أكثر من اهتمامهم بربط المعرفة بالواقع المعاش وبالمشكلات والأولويات التي يحتاجها مجتمعهم.. أما الطلاب فينحصر دورهم في حفظ المعلومات دون فهمها ثم اخراجها في امتحانات صورية.. وفي هذا تقزيم للطلاب وكبت لعقولهم وقتل لملكاتهم في التحليل والتفكير... ولهذا فبعض متفوقي هذا النظام هم الذين عندهم قدرة عالية على الحفظ (أو الغش) ومن هؤلاء من يعين في هيئات التدريس ليبدأ نفس الرحلة من جديد، ففاقد الشيء لا يعطيه.. أما الراسبون فهم الذين لا يحفظون أو لا يكتبون شيئا تقريبا.. ألا يطيل هذا من عمر الإستبداد بإنتاج خريج مقهور، أحادي التفكير، وغير قادرين على الفهم وغير مؤهل لتحمل أي مسؤولية؟ أليس في كل هذا إرهاب فكري عفا عليه الزمن ليس في شمال أمريكا وغرب أوربا فقط وإنما في دول كنا نقدم لها يد العون منذ عقود بسيطة ككوريا الجنوبية.. والأخطر أن طرق التفكير النقدي لها مكان في عقول الكثير من الأساتذة فما بالكم بالطلاب.. بعض الأساتذة يتصوون –أو يحاولون ترويج هذه الصورة للطلاب- أنهم أحاطوا بكل شيء علما وأن لا راد لكلامهم ولا مرجعية أكاديمية أعلى منهم، وبالتالي لا يحق للطلاب توجيه النقد أو حتى الاستفسارات حول ما يسمعونه.. والأداة الوحيدة لنقل المعرفة عند هؤلاء الأساتذة هي الكتاب الجامعي، ومن ثم فلا مكان لقراءات خارجية أو لمتابعة الإصدارات الحديثة ذات الصلة، أو لتطبيقات أو حوارات.. ثالث الأثافي هو شيوع التساهل والتسيب في إلقاء المحاضرات وفي إعداد البحوث أو ما يمارس تحت شعار مضل هو "كله زي بعضه..هو أنا حاغير الكون".. هذه جرثومة لا تظهر إلا في المجتمعات المتخلفة التي تسود فيها أنظمة سياسية واجتماعية استبدادية لا تستهدف إلا إيجاد إنسان مقهور ومنهزم ومنقاد إلى كل ما تروجه هذه الأنظمة.. وللجرثومة تجليات كثيرة، فبعض الأساتذة يظنون أن دورهم هو تلقين طلابهم بعض المعلومات، التي غالبا ما تكون متقادمة، ثم إجراء امتحانات هي في واقع الأمر طريقة شكلية لإعطاء شهادات دون اختبار حقيقي لقدرات الطلاب.. وغياب الإتقان في المحاضرات لابد أن يستتبعه تساهل في وضع أسئلة الامتحانات (بعض الأساتذة درجوا على إعطاء طلابهم الأسئلة قبل الإمتحان) ثم تساهل آخر في التصحيح ومنح الدرجات المرتفعة للطلاب (بجانب نظام الرأفة أي رفع الراسبين وهو نظام لا مثيل له في العالم).. أيعقل أن يبني هؤلاء لأنفسهم ما يظنونه سمعة حسنة بين الطلاب بمثل هذا التساهل والتسيب؟ ووصل الأمر إلى كارثة منح درجات الماجستير والدكتوراه لأشباه المتعلمين أو محترفي السرقات العلمية من الإنترنت.. هذا ناهيك عن اعتماد أسلوب عشوائي وإرتجالي في إدارة شؤون الأقسام العلمية.. بل إن بعض الأساتذة لا تطأ أقدامهم أقسامهم العلمية إلا ليوم واحد في الأسبوع.. الضحية هم الطلاب ومستقبلهم بل ومستقبل البلاد كلها.. فما الحل؟ الحل ليس في دورات شبه شكلية لتنمية قدرات أعضاء التدريس، يتم في الكثير منها نقل بعض المعلومات المترجمة بشكل حرفي ومخل إلى أساتذة الجامعة ولا في التصريحات والمشروعات الوهمية.. وإنما في إمتلاك إرادة التغيير ثم العمل على التغيير على ثلاثة أصعدة: الأول: ذاتي، فباستطاعة الكثير من الأساتذة مقاومة تلك الثلاثية على مستواهم الشخصي.. يجب إمتلاك إرادة التوقف عن كل ما هو سلبي: التلقين –قمع الطلاب وعدم السماح لهم بالنقاش –عدم الاهتمام بتحديث الكتب وإعداد المحاضرات –عدم احترام حريات الطلاب وعقولهم –عدم التساهل في الامتحانات وتقدير الدرجات.. لا يجب انتظار إصلاح الكون حتى نحترم عقول الطلاب ونعلمهم التفكير والتحليل.. فدور أستاذ الجامعة هو المساهمة، قدر المستطاع، في الإصلاح.. فما لا يدرك كله لا يترك جله.. وأذكر هنا بقول الله عز وجل: "فمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ" (7-8/الزلزلة).. الثاني: فتح حوار حقيقي ومسؤول بين أعضاء هيئات التدريس يتم خلاله التوصل إلى حلول حقيقية لقضايا خمس على الأقل: (1) إستقلال الجامعات والحريات الأكاديمية واعتبارات الأمانة العلمية، (2) رفع ميزانيات البحث العلمي والمرتبات والاهتمام بالبعثات والمؤتمرات والاحتكاك بالخارج، (3) دعم طرق التدريس الفعال وتكنولوجيا التعليم، (4) الاهتمام بمناهج البحث وبطرق التفكير النقدي، (5) ربط المقررات بمشكلات المجتمع وأولوياته وبرؤية محددة لنهضة البلاد في كافة القطاعات.. الثالث: هو عمل عام، فعلى أعضاء هيئات التدريس أن يكونوا في طليعة المنادين بالإصلاح السياسي السلمي الحقيقي.. فالإصلاح الحقيقي للتعليم لن يكتمل إلا في إطار دولة المؤسسات الدستورية الحقيقية التي لها دستور ديمقراطي حقيقي، وانتخابات ديمقراطية غير مزورة، وحريات سياسية يحميها القانون والقضاء المستقل.. وذلك حتى لا نكون كمن يحرث في الماء.. أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية www.abdelfattahmady.net