في عام 1805م/ 1220ه أسند أمر ولاية مصر إلى "محمد على سر ششمه" والذي كان ضمن بعثة تركية مع ثلاثمائة من الجند في أواخر أيام الحملة الفرنسية بقيادة نابليون الذي دخل الإسكندرية أول يوليو 1798م/ 17 المحرم 1213ه وباختصار شديد وبعد نجاح "القناصل" في إغراء "محمد على" بإرسال البعثات إلى أوروبة اجتهد المسيو "آدم فرنسوا جومار 1777 1862" فى حث " الباشا " على إرسال المزيد من البعثات ليجعلها تحت إشرافه وكان له ما كان بعد انصياع "محمد على" لرغبة قناصله، وسنحت لجومار الفرصة الذهبية لتنفيذ مشروعه معتمدًا على شباب يقضون في فرنسا سنوات تطول أو تقصر ويكون أثرهم أشد تأثيرًا في بناء فكر مخالف لثقافة الأمة ولديه القدرة على إزاحة كل أصول ثقافة الأمة المستمدة أصلًا من الدين. إذن القضية قديمة. لقد ذهب "محمد على" وذهب ملكه وهلك وجاء من بعده أولاده وهم في قبضة القناصل والاستشراق! وانشطر تعليم الأمة إلي شطرين وتكاثرت المدارس الأجنبية وتراجع التعليم الديني وانكسرت منظومة القيم العليا! نعم انكسرت منظومة القيم العليا التي تحكم المجتمع، انكسرت عن قصد أو جهل، المهم أن غاية الفكر الاستشراقي تحققت بشكل فعال! وتم تمهيد الطريق للاحتلال لاستنزاف الثروة أولًا وأخيرًا وبصرف النظر عن شطحات البعض من اعتبار الغزوة الفرنسية كانت وكانت... ثم ذهبت وجاءت بريطانيا لتأخذ نصيبها هي الأخرى وكان الاحتلال الإنجليزي في 2 من ذي القعدة 1299ه (الموافق 15/9/1882م) وأسند التعليم إلي القسيس "دنلوب" وكانت وظيفته هي السكرتير العام لنظارة المعارف برعاية اللورد "كرومر" وقد أحدث الاستشراق الإنجليزي صدعًا متفاقمًا، ووضع "دنلوب" أسس التفريغ الثقافي لطلبة المدارس وأصابت الحيرة الجميع خاصة أبناء المدارس، حيرة مدمرة وتأرجح بين ثقافتين، ثقافة عربية إسلامية، وبين فرعونية بادت وبادت ثقافتها ولم يبق منها إلا أطلال من الحجارة فارغة من ثقافة حية!. انقطعت العلاقة بيننا وبين ثقافتنا. قطعها "دنلوب" ومن قبله "جومار" وصارت ثقافة الغزاة تحتل الأدمغة بشكل لافت للنظر في جميع المجالات: التاريخ، الآداب، اللغات، الفنون، الخ.. فساد في جميع الجوانب الحياتية، أحدثه "دنلوب" الإنجليزي ومن قبله "جومار" الفرنسي.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا أدري لماذا تذكرت فجأة مقوله الصحفي السويسري "روجية دوبا سكوية" - سيدي عبد الكريم - بعد ذلك الذي قال عن الاستشراق "أبرزت تلك الدراسات شيئًا واحدًا فقط تعصب الدارسين ضد الإسلام" من كتابه إظهار الإسلام. إن وقوع "محمد على" في قبضة القناصل والاستشراق كان أكبر مصيبة تتعرض لها الأمة، بصرف النظر عن أي تفسير آخر لعلاقة "محمد على" بالغرب بحثًا عن التحديث واللحاق بالعصر وكل هذا الكلام الذي لا طائل تحته ولا فائدة منه، فالرجل فاقد التمييز كما ذكر محمود شاكر في كتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" وكل من خلفه في الحكم حتى رحلوا عن مصر لم يتمتع أحدهم بعقل فاحص أو على رأي الأستاذ عباس العقاد (الذي يفهمه أتفه من الذي لا يفهمه) وهي إجابة العقاد عن سؤال وجهه إليه فتحي رضوان في شأن الأستاذ سلامة موسى. أن أمن الأمة لم يخطر على بالي أحدهم من أولهم إلى آخرهم شاء دعاة تعظيم محمد على سر ششمه" أم أبوا! لقد كانوا جميعًا دعاة تغريب وهدم للثقافة التى حفظت الأمة من الضياع والإنكسار وهي التى قاومت الغزاة "الفرنساوية" بتعبير المؤرخ "الجبرتي" صاحب الكتاب الفذ عجائب الآثار!. نعم، حاربت الثقافة الغزاة، وانتصرت وعاد الصليبي "بونا برته" إلي بلدة تسبقه خيبته ولكن لم يمهلنا القناصل فرصة التقاط الأنفاس وجاء الاحتلال الإنجليزي بقوته وقسوته يفجر ويدنس ويملأ الأدمغة بكل حقير وبذيء وشغل كل ذيل وتابع من أمور هذا البلد كل مكان رفيع إلا أقل القليل الذي ظل يدافع عن وطنه بعقيدته حتى لقي الله. صورة قاتمة عاشها هذا الوطن منذ بداية الغزوة الفرنسية لمصر عام 1798م والتى فتحت أبواب الشر والمسخرة التي لا تزال الأمة حتى تاريخه تعاني من ويلاتها، والعجيب أن كل ذيل تابع يكتب ما يشاء عن هذه الغزوة من فنون المديح والإطراء وخاصة كتاب "وصف مصر" الذي هو في ذاته شر ما بعده شر! لمن توصف مصر؟! توصف لمن يريد أن ينهب الثروات، أهل مصر أحق بوصف مصر، وهم يعرفونها دون وصف!! كلام منمق ولكن لا يدخل إلى دماغ عاقل قادر على فحص كل كلمة بدقة ويتعامل كما علمه دينه أن يتعامل. رحل الصليبي "بونابرته" ولم يرحل تزيفيه وباطله معه، بل تركه يعربد في المحروسة حتى أرهقنا وأذلنا وحولنا إلي عبيد لا قيمة لنا في دنيا الناس! اللغة الفرنساوية والثقافة الفرنساوية والأدب والشعر والإنسانيات في عمومها ثم جاء الإنجليز فكانت لغتهم وأفكارهم وسفالاتهم محور الاهتمام من جانب النخبة فانكسرت الهمم بعد أن تطاول علينا البقر البهم، ومن أسف ساندهم كتاب الدرجة الثانية وحملة الأقلام المقصوفة والأقزام من رواد الفكر الانشطاري!. وكلنا يعلم من هم بالتحديد ولا فائدة من ذكرهم مرة أخرى. وقرأنا عن "الثقافة العالمية" والحكومة العالمية و"الحداثة" و"النهضوية" والأصالة والمعاصرة، وكل هذه المفاهيم المضللة التافهة والتي أفردت لها صحافتنا (وكلنا يعلم كيف قامت صحافتنا) كل المساحات وجيشت لها الجيوش كي تقوم بالمهمة المنحطة وهي شحن العقول بما لا يفيد على أنه الكلمة الأخيرة والحق الذي لا غبار عليه والدليل إلى (عالم متقدم متحضر)!! هكذا قدمت التفاهة وتربعت على عرش الثقافة في مصر ومعظم العالم الإسلامي كان مفعولًا به ولكن البوابة الرئيسية التى دخل منها الفاعل هي مصر في غفلة من أهلها. ولا حول ولا قوة إلا بالله. مرة أخرى القناصل والاستشراق! بوابه جهنم التي دخل منها كل فاسد وقبيح! دخل ليعمل عمله الذي جُهزّ واستعد له! دخل ليعمل عمله في الذبيحة من سلخ وغيره حتى يقبر عظمها وينتهي أمرها وتذوب وتتلاشي (وبراءة الأطفال في عينيه)!! لقد فرغت العقول تمامًا! وعاشت الأمة أسود أيامها وتربع أنصاف الكتاب والسماسرة على قمة الهرم الثقافي وتراجع الكبار وأخذ كل منهم مقعدًا في مقاعد المتفرجين وتاهت ثقافتنا وخصائصها وميزتنا الحضارية في ركام من الزيف والباطل والكذب والدجل واستحوذ الخبل على العقول فتعاطت مفاهيم الشعوذة والسحر وفك الطلاسم والتجديف في حق الذات الإلهية وانتهاك المقدسات من ثوابت العقيدة والتي ظهرت في أدبيات كثيرة تنطق بالكفر والفجور على أنه بلاغة البلغاء! واقع مشحون بالتخلف والعجز!!