تشهد مصر هذه الأيام عنفًا وحرقًا وقتلاً من بعض المصريين, فيخرج علينا السياسى الانتهازى أو الإعلامى الفاجر ليتجاهل العنف ويقول دعنا نتحدث عن الدوافع والأسباب التى أدت إلى العنف، وفى النهاية يحملون المسئولية للنظام الحاكم.. وليس هناك مانع أيضًا أن يتم تحميل المسئولية إلى الإخوان ومرشدهم.. عنف فى مواجهة المحتل وأعوانه كانت مصر فى القرن الماضى تحت الاحتلال الإنجليزى, وحق المقاومة للمحتل تكفله القوانين والدساتير, وقد كان لجماعة الإخوان وقتها تنظيم خاص لمقاومة المحتل وأعوانه من ناحية، ولمقاومة خطر الدولة الصهيونية الوليدة من ناحية أخرى, وقد قام الإخوان بهذة المهمة لأن الدولة (تحت الاحتلال) لم يكن لجيشها القيام بذلك, وكانت التنظيمات الأخرى غير مهتمة بهذه القضايا, بل إن التنظيم الشيوعى المصرى الذى أسسه هنرى كورييل (اليهودي) لم يكن يمانع فى قيام دولة للصهاينة على أرض فلسطين!! قام شباب الإخوان وقتها من أعضاء التنظيم الخاص بالاعتداء على جنود بريطانيين فى الإسكندرية, وهو عمل فدائى وبطولى بامتياز, فتم القبض عليهم وإحالتهم للمحاكمة فحكم عليهم قاضٍ مصرى اسمه (أحمد الخازندار) بالأشغال الشاقة المؤبدة فى 22 نوفمبر 1947.. اعتبر بعض شباب الإخوان أن القاضى موالٍ للاحتلال, ولم لا؟ فما قاموا به يعتبر مقاومة للمحتل, ولذلك قام شابان من الإخوان فى 22 مارس 1948 بإطلاق الرصاص عليه فقتلوه.. حينما يرى المصريون فيلم (فى بيتنا رجل) المأخوذ عن رواية لإحسان عبد القدوس, فإنهم يتعاطفون مع بطل الفيلم الذى قام هو وزملاؤه بمقاومة المحتل وأعوانه, كما يشعرون بالمقت الشديد لمشهد تساقط الطلبة المصريين من فوق كوبرى عباس فى 9 فبراير 1946, ولم يذكر الفيلم أن المسؤول الأول عن إصدار الأمر بفتح كوبرى عباس هو محمود فهمى النقراشى لإغراق المظاهرة التى قادها طلبة جامعة فؤاد ضد الاحتلال الإنجليزى رافعين شعار «الجلاء بالدماء»، حيث كان النقراشى رئيسًا للوزراء ووزير الداخلية فى آن واحد.. فى ديسمبر 1948 اعتبر بعض الإخوان أن قتل النقراشى واجب وطني, لما فعله ضد المصريين من جهة, ولما قام به من حل للجماعة المقاومة للاحتلال والصهاينة من ناحية أخرى, ولما ظهر من خيانة صارخة للنقراشى فى فلسطين، بأن أسهم فى تسليمها لليهود، كما شهد بذلك ضباط القوات المسلحة المصرية بعد ثورة 1952م. ومع ذلك فقد أصدر حسن البنا عقب هذا الحدث بيانًا بعنوان: "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"، استنكر فيها الحادث وتبرأ من فاعليه, وحكم القضاء على المتهم الرئيسى بالإعدام شنقاً وعلى شركائه بالسجن مدى الحياة.. لم يستطع إعلام عبد الناصر بعد خصومته للإخوان أن يسرف فى اتهام الإخوان بقتل الخازندار والنقراشى, لأن زمن الحادثتين قريب, وكانتا فى حس كثير من المصريين من أعمال الفداء والبطولة, بل إن ثورة يوليو 1952 قامت أصلاً ضد ممارسات العهد الملكى كله.. لكن الإعلام بعد ذلك (واعتمادًا على النسيان) ظل فى زمن مبارك ولمدة 30 سنة يردد اتهام الإخوان بقتل الخازندار والنقراشى كدليل على انتهاجهم للعنف.. عنف الجماعات الإسلامية اصطف أغلب السياسيين والإعلاميين والمثقفين والأدباء والفنانين مع نظام مبارك الديكتاتورى المستبد لمساندة نظامه فى مواجهة ما سُمى بعنف الجماعات الإسلامية فى الثمانينيات, واعتبروا أن العنف غير مبرر, ولم يُشر أحدهم إلى الدوافع ولم يشر أحدهم إلى أن العنف المزعوم موجه ضد نظام مبارك الموال للصهاينة والأمريكان والقمعى المستند على حكم الطوارئ والمعتقلات وزبانية أمن الدولة وقتذاك.. وخرجت علينا أفلام ومسلسلات وبرامج وصحف ومجلات وندوات لا هم لها إلا مساندة نظام مبارك ضد ما اعتبروه عنف الجماعات الإسلامية.. العنف الحالى أغلق مبارك كل الطرق أمام الإصلاح السياسى، فقام المصريون بثورتهم, والآن أصبح لمصر دستور ورئيس منتخب وتترقب مصر برلمانها الجديد, ولم يعد وجود الرئيس فى الحكم مؤبدًا, ولم يعد تغيير الدستور مستحيلاً, وأصبح تأسيس الأحزاب بالأخطار وغير ذلك كثير, صحيح أن المسار السياسى الحالى به كثير من العيوب والخلل, لكنه يبقى مسار سياسي يمكن إصلاحه من خلال السياسة أيضا بعد أن فتحت الأبواب.. فصاحب أى فكرة يراها أصوب لمصر يستطيع أن يجمع حولها الناس ويؤسس لها حزبًا ويخوض به الانتخابات, فإذا حازت الفكرة وأصحابها على اختيار الشعب وثقته تحولت إلى موقع التنفيذ.. لكن المذهل, أن يصمت السياسيون والإعلاميون والفنانون والأدباء والمثقفون الذين احتشدوا مع مبارك لمساندته ضد ما سُمى بعنف الجماعات الإسلامية ويصابون اليوم بصمت القبور, بل وتجاوز بعضهم إلى المتاجرة بالعنف وتوظيف نتائج السخط منه سياسيًا ويحملون مسئوليته على النظام الحالى!! أين احتشاد الساسة؟ وأين احتشاد الإعلاميين وغيرهم ليقفوا صفا واحدا ضد العنف الحالى كما وقفوا مع مبارك؟ لماذا يسوقون اليوم المبررات ويتفهمون الدوافع ويتملقون المجرمين.. إن محاولة اقتحام سجن بورسعيد جريمة.. إن محاولة اقتحام سور الاتحادية وإلقاء المولوتوف عليه جريمة, وقطع الطرق وتعطيل المترو, ومنع الناس من دخول مجمع التحرير وغيره من المؤسسات تحت ذريعة العصيان المدنى جريمة, إن حرق مقر اتحاد الكرة ونادى الشرطة بالجزيرة جريمة, إن أفعال العنف من أى ألتراس جريمة, إن جماعات البلاك بلوك ومن على شاكلتهم مجرمون.. قولوها عالية صريحة متكررة واضحة.. قولوها وإن اختلفتم مع النظام الحالى.. اعتبروه (فى أقصى تقدير) كنظام مبارك الذى ساندتموه يوما ضد ما اعتبرتموه عنفا غير مبرر.. قد يختلف كثيرون (وأنا منهم) مع سياسات الحكم الحالى جملة وتفصيلاً.. لكن علينا جميعا العمل على إنجاح تجربة التحول الديمقراطى وتطورها من ناحية, وعلى قطع الطريق أمام كل جماعات العنف من ناحية أخرى, وأحسب أن من يتوانى عن ذلك سيكون سببًا مباشرًا فى إجهاض التجربة وفى شيوع العنف, وسيُكتب اسمه وسيرته فى أسوأ صفحات تاريخ الانتهازيين.. [email protected]