"ماذا تقول يا جدي؟ كنتم تتلقون في بيوتكم كل صباح قطعاً كبيرة من الشجر الميت مطبوع عليها كلمات تخبركم بما جرى في اليوم السابق؟ جدي، أرجوك، توقف عن الكذب!". هكذا تحدث طفل المستقبل إلى جده، بحسب ما تخيّل الروائي الأميركي جي. إم. غولد، في موقع أميركن ثنكر (18 أيلول/سبتمبر 2012). هل الصحافة الورقية في أزمة؟ لا، إنها تختنق، ولا شيء يوحي بأن موتها قابل للإلغاء. الدول تشيخ، وكذلك الصناعات والمشاريع والظواهر، وربما العادات والأذواق. يرصد ألن متَر (صحافي ومحرر أميركي محترف) محطات انحدار الصحافة الورقية في الولاياتالمتحدة الأميركية، ويقدم لنا هذا الأرقام من عام 2011: هوت مبيعات الصحف إلى أدنى مستوياتها منذ عام 1984؛ مجموع عائدات الإعلان في كل الصحف عادلت (بصعوبة) ثلثي أرباح غوغل؛ والعائدات الرقمية، والتي كانت أمل هذه الصناعة في الإحياء الاقتصادي زادت بنسبة 6.8 فقط، وهو ما لم يكن كافياً لتعويض خسائر الإعلانات (هبطت عائدات الإعلان في الصحف خلال العقد الماضي من 60 بليون دولار في عام 2000 إلى 20 بليوناً عام 2011، بحسب رابطة الصحف الأميركية). اضطرت الصحف إلى اتخاذ إجراءات "تقشفية" لكبح جماح الخسائر. من ذلك مثلاً الاستغناء عن موظفين، تقليص حجم الصحيفة نفسها إلى حجم "تابلويْد" (أو تقليص مساحة الأخبار "news hole" التي تبقى في الصحيفة بعد نشر الإعلانات)، وربما التوقف عن إصدار الصحيفة كل يوم، والاكتفاء ببعض أيام الأسبوع، أو الاحتجاب التام، والاتجاه إلى النشر الشبكي. يشير الناقد الأميركي إرِك ألترمِن إلى أن لدى الصحف الكبرى في الولاياتالمتحدة موظفين أقل ب 50 إلى 70 في المئة من بضع سنين خلت. في عام 2011 بلغت نسبة تسريح موظفي الصحف 30 في المئة بحسب إريكا سميث، صاحبة مدونة بيبر كت (paperCut) المهتمة برصد هذه الظاهرة. شركة غرانت الأميركية التي تصدر باقة من الصحف في أكثر من ولاية (منها يو إس أي تودي)، استغنت في عهد مديرها التنفيذي السابق كريغ دبو، عن20 ألف عامل منذ عام 2005، وهوى سعر سهمها من 72 سنتاً إلى 10 سنتات (86 في المئة). وبالرغم من ذلك، كما يقول ألترْمِن، فقد كوفئ دبو بعد استقالته بحزمة مالية تبلغ 32 مليون دولار سنوياً. والأمر نفسه ينطبق على السيدة الرمادية، النيويورك تايمز، التي هوت أرباحها بنسبة 12.2 في الربع الرابع من عام 2011 بسبب خسائر باهظة وعمليات تسريح واسعة النطاق لعاملين لديها، ولكنها أهدت مديرتها التنفيذية السابقة جانيت روبنسِن (28 عاماً) مكافأة نهاية خدمة قدرها 24 مليون دولار، وعقد استشارة تدفع لها الصحيفة بمقتضاه 4.5 مليون دولار، تصلها كل عام بغض النظر طلبت رأيها أم لا، على ألا يتجاوز زمن الاستشارة 15 ساعة في الشهر، وأن تبلغها الصحيفة قبل الاستشارة بوقت كافٍ حتى لا تقطع استرخاءها مع العائلة أو انهماكها في شغل آخر. وهنا يتساءل ألترمن: هل يدهشك أن أولئك العباقرة الإداريين لم يستطيعوا أن يأتوا بأية أرباح واعدة تمد صناعتهم بأسباب الحياة؟ بعض المطبوعات احتجبت بالكامل، كملحق صحيفة الواشنطن بوست الأسبوعي بوك وورلد الذي اختفى من الوجود في 15 آذار (مارس) 2009، ومجلة لوس أنجلس تايمز التي ظهرت آخر نسخها في 3 حزيران (يونيو)2012، وصحف محلية كصحيفة ساوث بوسطن تريبيون التي ودعت قراءها في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 بهذا العنوان: "نهاية عصر". ثمة صحف اختارت الاحتجاب الجزئي كصحيفتي الديترويت نيوز في ولاية ميشغن، وتايمز باكايون في ولاية نيو أورليانز اللتين قررتا الصدور ثلاثة أيام فقط، في دلالة على انتصار العصر الرقمي. مطبوعات أخرى اختارت طي الورق تماماً والاتجاه إلى الإنترنت، مثل الكريستيَن سينس مونيتور (أول صحيفة أميركية تضع محتواها على الشبكة) التي اتخذت القرار في أواخر عام 2008 مكتفية من النشر الورقي بعدد واحد في الأسبوع (كانت الصحيفة توزع 223 ألف نسخة في عام 1970، هبطت إلى 50 ألفاً قُبيل توقفها وتحولها إلى الشبكة). وحذت حذوها مجلة نيوزويك التي صدر آخر أعدادها في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2012، بعد 79 عاماً من سعي حثيث للتأنق والإبهار من خلال أوراق مصقولة وألوان زاهية، واختارت للغلاف صورة مقرها في نيويورك بالأبيض والأسود وعليه عبارة "#آخر عدد مطبوع" مسبوقاً بوسم تويتر الشهير في إشارة إلى انتصار الوسائط الجديدة. لم تكتف المجلة بذلك، بل عدّلت اسمها إلى "نيوزويك غلوبَل" ليتواءم مع إيقاع "الكوننة" الرقمية. أدركت نيوزويك من خلال الإحصاءات أن المستقبل للقراءة من الحواسيب اللوحية والهواتف الذكية (39 في المئة من الأميركيين يستقون الأخبار من الإنترنت بحسب مركز بيو للأبحاث، وتجاوز عدد مستخدمي الحواسيب اللوحية 70 مليوناً بنهاية عام 2012. رأيت في الهند هذا الأسبوع عشرات الأميركيين والأوروبيين يقرؤون من هذه الحواسيب في المطارات وعلى الشواطئ وفي ردهات الفنادق). على الضفة الأخرى من الأطلسي، تحولت معظم الصحف إلى المقاس الصغير (تابلويد) مثل التايمز والإندبندنت والديلي تلغراف والغارديان. وتدرس الأخيرة إيقاف نسختها الورقية بسبب متاعبها المالية. في العالم العربي ينمو الاعتماد على الصحافة الشبكية، لاسيما في ظل التداعي المريع لصدقية "الإعلام" القديم المرتبط بنخب مهيمنة تأبى إلا الإيغال في عالمها الخاص، وتجاهل نبض الشارع. وصل عدد مستخدمي الإنترنت العرب إلى نحو 90 مليوناً، والنسبة تتزايد. تحقق الصحف التي تقيم حاجزاً مالياً (paywall)، أو التي تشترط دفع رسوم مالية مقابل الاطلاع على محتوياتها، عائدات جيدة. النيويورك تايمز كسبت في سنة واحدة 400 ألف مشترك في خدمتها الرقمية. وكان الحاجز المالي سبب ارتفاع مبيعات صحيفة الفاينانشال تايمز بنسبة 7 في المئة، وزيادة أرباحها بنسبة 10 في المئة، في النصف الأول من عام 2011. تستنتج دراسة أجراها برادلي ولسن، أستاذ الإعلام بجامعة مِد ويسترن الحكومية، أن الصحافة المطبوعة ستختفي بحلول عام 2050 مشيراً إلى أن موظفي هذه الصحافة قل عددهم خلال السنوات الثماني الماضية بنسبة 28 في المئة. فيليب ميير، أستاذ الصحافة في جامعة شابل هل، تنبأ في كتابه "نهاية الصحافة" أن عام 2043 سيشهد طباعة آخر صحيفة في أميركا، بينما رجّح مركز أننبرغ في جامعة جنوب كاليفورنيا في تقرير له أواخر العام الماضي أن معظم الصحف ستحتجب خلال 5 سنوات. يعزو بعض المعلقين سبب الانحدار السريع للصحافة المطبوعة إلى انفضاض القراء الأصغر سناً عنها، واتجاههم إلى الوسائط الجديدة التي تمتلك عناصر الجذب والإغراء. يقول بول غيلين، الخبير في الوسائط الاجتماعية: "انظر إلى نشرات الأخبار المسائية وراقب الإعلانات. إنها للباحثين عن الأدوية والتأمين والمنشطات الجنسية. المعلنون يعرفون من هو الجمهور. في عام 2010 كان متوسط عمر مستهلك الأخبار 53 بحسب مركز أبحاث بيو. أين سيكون هذا الجمهور خلال 20 عاماً؟ أين سيكون المعلنون؟". التحدي الذي تواجهه صناعة الأخبار، بحسب غيلين، هو "البحث عن منتجات تغري القراء الشباب"، مقترحاً الاستغناء عن الموظفين الكبار الذين يتقاضون رواتب باهظة، وإحلال محررين أصغر سناً محلهم، وهو ما سيحفز إنتاج أفكار جديدة تمنح الصحافة فرصة أخرى للنمو. ناشط صحافي آخر هو دون إريفين، رئيس منظمة "أكْيوريسي إن ذا ميديا" أكد أيضاً أن التحدي الذي تواجهه الصحف لا يأتي من الإنترنت وحدها، بل من "ديموغرافيا تشيخ". درجت الصحف على جذب الجمهور الأكبر سناً، والذي يفضل قراءة صحيفة حسية، ولا يحبذ الشبكة، كما هي حال الجيل الأصغر. ومع مرور الزمن، يكبر هذا الجمهور ويموت، فتفقد الصحف جمهورها الذي اعتمدت عليه طويلاً. لاشك أن غياب الصحف سيخلق فراغاً هائلاً. المواطن العادي الذي اعتاد قراءة يومية مدينته أو بلدته كل صباح، سيجد نفسه منفصلاً عن ممارسة "طقوسية" شكلت طريقة حياته، وأصبحت جزءاً من نمط معيشته. غياب الصحف والمجلات يعني أيضاً انتهاء نمط من الكتابة والتحليل درج عليه آلاف المعلقين والمثقفين. وفوق كل هذا، ستتوارى متعة احتضان المطبوعة المفضلة، وتقليب صفحاتها، والاحتفاظ بها أو بجزء منها. قد تصمد بعض الصحف في مواجهة العاصفة، بينما يستمر اتجاه الأجيال الصاعدة بقوة إلى الشبكة. لكن حتى هذه الأقلية الصامدة تواجه تحدي البقاء من خلال إغراء المتلقي بمحتوى أكثر غنى وجذباً، يُعاد إنتاجه عبر الحواسيب والهواتف. الصور اللافتة والأخبار المثيرة والتقارير الاستقصائية هي لب الصحافة الحقيقية. إنها معركة لكسب العقول والقلوب يمتزج فيها الإبهار مع التنويع والابتكار، وتحسس نبض المواطن، وتشجيع التفاعل الحقيقي (لا الشكلي أو المختلق)، وتوسيع هامش النشر، والاحتفال بالنقد. لكن قد يكون مشهد الصحف وهي تحتضر مرحلة تاريخية اقتضتها سنن التدافع والصعود والأفول. في اللحظة الراهنة تتصدر الرقميات ميدان السباق، وتلهث الورقيات في آخر الركب، وتسجل الجماهير تعليقاتها في فيسبوك وتويتر! في بواكير القرن العشرين غرد شوقي: لكلِّ زمانٍ مضى آية.. وآية هذا الزمانِ الصحُفْ.. كان زمان!...وسأنتظر سؤال حفيدي! *أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود https://twitter.com/LoveLiberty