إذا كان تاريخ العالم خلال السنوات الخمسين الماضية قد أثبت شيئاً، فهو أثبت استحالة حكم الحزب الواحد مهما كانت الغايات سامية. ومع هذا يتعين الإقرار بحقيقة أساسية في بلداننا ومجتمعاتنا العربية هي ان هذه المجتمعات مازالت عصية على «التعددية». أما المثال الحي لاختبار هذه الحقيقة او الفرضية فإنه يأتي من حيث لا يتوقع الكثيرون: العراق. ان العراق بات ساحة للموت ومرادفاً للانهيار في نظر الكثيرين، لكن العمليات المسلحة والضحايا والتدمير ووطأة الاحتلال والصراع السياسي بين العراقيين يبدو مثل الخداع البصري. فخلف هذا المشهد اليومي، فإن الحقيقة الوحيدة الباقية هي أن ما يجري كله ليس سوى صراع بين حقيقتين. أياً كانت الحقيقة الأولى القديمة، فإن الثانية التي لاتزال تتكون هي مجتمع قائم على التعددية والتداول السلمي للسلطة. من قال هذا؟. نظرياً، جميع العراقيين يرددون ذلك، لكن من الناحية العملية والواقعية، فان حال الانقسام هذا لا يعكس سوى هذا الاختبار الصعب بين منظومة قيم اعتادها العراقيون طيلة تاريخهم وبين قيم جديدة ظلت تحوم حولهم، اما في الكتب او لدى الآخرين. أحلام بناء مجتمع ودولة جديدة قائمة على التعددية تسير جنباً الى جنب مع مخاوف هيمنة فئة أو طرف واحد. الموقف من الاحتلال وتالياً كل ما يقتضيه بناء الدولة من تأسيس لهياكل دولة جديدة سواء بكتابة دستور وانتخابات وبناء سلطة وحكومة، يشكل في نهاية المطاف المسرح الذي يمكننا فيه اختبار تلك الفرضية. ان التعددية والتداول السلمي للسلطة مازالت تجريدات نظرية لازمة للخطاب السياسي لا أكثر. وما يجري في العراق من تجاذبات منذ سقوط النظام السابق وصولاً حتى الخلافات على تشكيل الحكومة تعكس في بعدها الحقيقي كيف أن مشاعر الشك والريبة المتبادلة بين العراقيين تهدد امكانية انجاز مهمة بناء دولة ومجتمع تعددي قائم على تداول السلطة. والاستنتاج الاكثر رعباً من هذا كله هو ان الاستبداد يبدو على الدوام الخيار الأفضل لتفادي الانهيار بمعناه الأشمل. العراق ربما يبدو مثالاً صارخاً على اختبار كهذا، ان تصبح التعددية والتداول السلمي للسلطة حقيقة قائمة تحكم المجتمعات العربية. لكن التحدي يفرض نفسه حتى في الاوضاع الطبيعية الخالية من التأثير الهائل لعنصر خارجي مثل احتلال أجنبي، أي حالة الاصلاح السلمي الطببعي. ان أول ما يتطلبه الاصلاح المتدرج كشرط للنجاح هو وضوح الافق الذي تسير اليه برامج الاصلاح أو توافقاته بين الحكومات والنخب السياسية والاجتماعية في اي بلد. ومن الواضح ان مثل هذا الافق لم يتضح لا في العراق ولا في أي بلد عربي آخر. الواقع ان الاصلاح له محنته في بلداننا العربية. فمثلما ان نشر الديمقراطية والحرب على الارهاب تبدو مزيجاً خطراً، فإن طموحات الاصلاح في البلدان العربية يكتنفها خطر مزدوج أيضاً: من النخب الحاكمة وتيارات المعارضة أيضاً. حسناً، ماذا سيفعل الأخوان المسلمون لو سارت الانتخابات الرئاسية في مصر بشكل مثالي وتمكنوا من إيصال مرشح لهم الى قصر عابدين؟. في أحسن الأحوال فإن الجواب الأفضل هو: لا أحد يدري. وهنا بالضبط يكمن جوهر المشكلة. انهم أفضل القوى السياسية المصرية تنظيما وأكثرها انتشاراً وتأثيراً، لكن لا أحد يدري بالضبط ماذا سيكون عليه الحال اذا استلموا السلطة في مصر سواء عبر أغلبية برلمانية أو رئيس للجمهورية أوصلته صناديق الاقتراع الى الرئاسة. والأخوان المسلمون المصريون يبدون المثال الافضل، لكن تعميم السؤال على سائر البلدان العربية لن يأتي بجواب آخر افضل من هذا: «لا أحد يدري». الجواب نفسه ألفناه مع النخب الحاكمة نفسها، وهو الجواب الوحيد المطروح منذ عقود طويلة وحتى اليوم. فنحن لا نعرف الى اين نسير وليس هناك برنامج يصوت عليه الناس بل يصوتون للزعماء وكفى. لكن عندما تأتي اللحظة الحاسمة، فإن الناس وتحت وطأة الخوف من المجهول ستفضل اختيار ما اعتادت عليه والانحياز الطبيعي لسلطة ألفتها وعرفتها رغم كل السلبيات ومظاهر الشكوى المرة من الاستبداد واحتكار السلطة او الفساد عوضاً عن اختيار المجهول. ان المجهول هنا ليس سوى ذلك التعبير المترفق عن غموض مازال يكتنف تنظيماً كبيراً وعريقاً مثل الأخوان المسلمين. فالاخوان المسلمون رغم كل مظاهر الاعتدال والوسطية تنظيم ايديولوجي مثلهم مثل كل التنظيمات الأيديولوجية الأخرى التي عرفتها البلدان العربية في العقود الماضية. فهم يملكون نموذجهم الجاهز للحكم وادارة المجتمع والدولة مثلهم مثل كل الحركات الايديولوجية التي عرفها العالم. ان هذا النموذج مختلف تماما عن البرنامج السياسي الذي يمكن ان يصوغه الحزب ويطرحه للناس، لان النموذج يستلهم نفسه أصلاً من خارج الحاجات والغايات الدنيوية: الاقتصاد، السكان، النمو والبيئة ومشاركة المرأة. انه مستمد من مثال ديني وهذا هو مرجع الخطورة. ان هذا هو ما يجعل الغموض والحيرة يلفان الموقف من الاخوان المسلمين لان الغموض نابع من عندهم اصلا. فالديموقراطية بما تقتضيه من تعددية وتداول سلمي للسلطة وحرية تعبير ليست مما تقبله الايديولوجيا والنموذج واجوبتهما السهلة لكل القضايا بل هما نقيضان. حتى الحلم بالتوفيق بينهما ليس سوى محاولة لتوليف مزيج خطر. ليس على الاخوان سوى ان يلتفتوا جنوب وادي النيل لكي يقرأوا بعناية تجربة اسلاميي السودان. تلك التجربة التي حركها طموح إعادة بناء مجتمع بأكمله من جديد وفق رؤية وقراءة واحدة للدين. هذه الرؤية كلفت السودان الكثير من الاثمان والاكلاف الباهظة: حرب وضحايا ودماء وقمع ومعتقلات وسجل مخز في حقوق الانسان انتهت اليوم للتسليم بما كانت تسعى لتدميره: التعددية واقتسام السلطة مع اعداء الامس.