إن المرحلة الإنتقالية التي تعيشها أغلب دول الربيع الديمقراطي توضح بالملموس صعوبة إحداث تغيير سريع و ملموس في مجتمعات ترعرت في حضن الإستبداد و تربت في كنف القمع و الإقصاء.كما تبين بالواضح أن معركة البناء و الإصلاح و التغيير ليست بين علماني ليبرالي أو يساري و بين إسلامي, بل هي في الحقيقة بين من يؤمن بالديمقراطية آلية للتداول على السلطة و وسيلة لإستحقاق الشرعية و بين من يجعل منها مطية للوصول إلى مآرب شخصية أو تحقيق غايات معينة فيتغنى بالديمقراطية عندما تأت بما يشتهيه و يلفظها عندما تأت بما يكره. فمن حسنات الربيع الديمقراطي الذي تعيشه الأمة اليوم , تقسيمها إلى فسطاطين : فسطاط الديمقراطيين و فسطاط اللاديمقراطيين. تقسيم أظنه الأصوب لتقييم تفاعلات مجتمعاتنا مع التغيرات الطارئة عليها وكذا قدرتها على التجاوب مع شروط الإنتقال الحقيقي نحو مجتمع ديمقراطي مبني على مؤسسات دستورية شرعية. إن الديمقراطية عند كثير من اللاديمقراطيين العلمانيين و الإسلاميين -أقصد بالدرجة الأولى السلفيين منهم- وسيلة إنتهازية لممارسة الإقصاء ضد الخصوم الإديولوجيين و ليست نابعة من قناعة فكرية عميقة بضرورة الديمقراطية لبناء مجتمع إنساني يتسع للجميع. لتوضيح الفكرة سآخذ الحالة المصرية كأنموذج لأن ما تعيشه مصر من احتقان سياسي جعل الفكر اللاديمقراطي يكشف عن نفسه في أبشع الصور. لنبدأ بالعلمانيين أولا: كيف يعقل ممن يدعي الديمقراطية أن يسارع إلى الإنقلاب على الشرعية الدستورية عبر الدعوة إلى تدخل خارجي أو الرجوع إلى حكم العسكر في حالة استقواء بطرف لا محل له في خلاف سياسي يمكن أن يحل بالحوار إن صلحت النية (موقف البرادعي أنموذجا) ؟؟؟ كيف يستقيم إدعاء الديمقراطية و التضحية بمصلحة الوطن في الإستقرار السياسي و الإبقاء على هيبة الدولة و مؤسساتها عبر تعريض قرارتها للتسفيه و الإبطال لمجرد الإختلاف حول قضية سياسية معينة (موقف جبهة "الإنقاذ الوطني" أنموذجا)؟؟؟ كيف يعقل ممن يدعي الديمقراطية أن يرفض الإحتكام إلى الشعب بل و يصادر حقه في الإختيار و يمارس عليه الوصاية لأنه في نظره مجتمع أمي و غير ناضج لن يحسن الإختيار (موقف علاء الأسواني و عمرو حمزاوي أنموذجا) ؟؟؟ إن حالة أغلب هؤلاء العلمانيين "اللاديمقراطيين" تترجم غياب انسجام منطقي مع الذات تكشفه حالة العداء المستبطن لكل ما هو إسلامي فأساس رفضهم إيديولوجي لذلك لا يقبلون بالإسلامي إذا ربح الإنتخابات بطريقة ديمقراطية لأنه إسلامي و ليس لأنه لا يخدم مصلحة الوطن إذ ذاك آخر أمر يفكر فيه أمثال هؤلاء ممن فضحوا أنفسهم بمواقفهم المتناقضة المخزية سالفة الذكر. و الآن ننتقل إلى الإسلاميين السلفيين: إن أغلب الأحزاب السياسية "السلفية" إنتهازية في تبنيها لمفهوم الديمقراطية فهي ترى فيها وسيلة للوصول إلى السلطة مادامت آلية الإنتخابات تمكنها من ذلك لامتلاكها قاعدة شعبية واسعة تضمن لها ذلك. فكيف يعقل أن ينتقل السلفييون إلى العمل السياسي و أن يعلنوا تبنيهم للديمقراطية في مدة وجيزة جدا ( بين سقوط نظام مبارك و تنظيم انتخابات مجلس الشعب) لا يستقيم بعاقل أن يقول إنها كافية للقيام بمراجعات فكرية تنقل أصحابها من القول بأن الديمقراطية كفر إلى تبني الديمقراطية كمبدأ للتداول على السلطة. بل إن منهم من لا زال يردد بأن الديمقراطية كفر و يدعو الناس إلى التصويت على الدستور بنعم و يحلم بالسيطرة على مجلس الشعب و مجلس الشورى عن طريق الإنتخابات "الديمقراطية" القادمة لتعديل الدستور وتغيير كلمة الديمقراطية الواردة في مشروع الدستور الجديد بكلمة الشورى ؟؟؟؟ كيف يحسن بمن يدعي الديمقراطية من الإسلاميين أن يتهموا كل معارضيهم "الديمقراطيين العلمانيين اللبيراليين أو اليساريين" بمعارضة الإسلام و الكيد له و لشريعته و كذا وصفهم بأقبح النعوت و الأوصاف و اللجوء إلى تكفيرهم و ووصفهم بالزندقة و الفسق في اختلاف سياسي حول قضية من القضايا لا يحتمل كل هذا التهجم غير الأخلاقي الذي لم يأمر به لا شرع الله و لا شرع البشر في التعامل مع المخالفين مع ما في هذا التهجم من دلالة على الفكر الإقصائي و محاولة للإستئثار بالسلطة والوطن ؟؟؟ كان هذا استعانة بالأنموذج المصري لتوضيح فكرتي . أنموذج أظن خلاصاته عموما تنسحب على باقي دول العالم العربي ,لأن إشكال اللاديمقراطيين جميعا في كل مكان و على اختلاف مذاهبهم السياسية , أن فكرهم إقصائي و تبنيهم للديمقراطية انتهازي, فالوطن الذي يسكنونه لا مكان فيه للآخر. ينضاف إلى ذلك عدم استيعابهم أنه في جميع المراحل الإنتقالية التي تمر منها الدول و التي تلي تغييرا في أسس النظام القائم, تكون السمة الغالبة على الصراع السياسي هي سمة التوافق التي تعني بالضرورة تقديم كل طرف سياسي حزمة من التنازلات و كل ذلك لتجنب الصدام الذي يخلقه تشبت كل طرف برأيه و محاولة إقصاء الآخر المخالف و مصادرة حقه في الوجود, مما قد يؤدي إلى انفراط عقد المجتمع و رجوعه إلى مرحلة ما قبل التغيير أو إلى أسوأ منها. إن أشد خطر يتهدد ربيع الأمة الديمقراطي هو أن يتسيد المشهد اللاديمقراطيون و أكبر منج من هذا الخطر توحد و تكاثف جهود الديمقراطيين الحاملين لهم الوطن و المتعالين عن المصلحة الإيديولوجية و الحزبية الضيقة. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]