لن أنسى ما حييت مشهد الأعلام الفلسطينية ، وهي مرفوعة في المقاطعات الكاثوليكية في ألستر (أيرلندا الشمالية) أثناء المواجهات مع جيش الاحتلال البريطاني أثناء ثمانينات القرن الماضي . فالمعروف أنه حتى ثلاث قرون مضت كان سكان جزيرة أيرلندا كلهم من الكاثوليك ، وذلك إلى أن قام الانجليز بغزو شمال الجزيرة ، وإحتلال ستة مقاطعات فيها قبل أن يغرقوها بمستوطنين إنجليز من البروتستانت طردوا أصحاب الأرض الأصليين من أراضيهم واحتلوها بالقوة حتى تحول الكاثوليك في هذه المقاطعات الستة إلى أقلية. لهذا السبب يتعاطف الكاثوليك مع الفلسطينيين فالتشابهات كثيرة بين مأساة الشعبين : الاستعمار في الحالتين إستيطاني وكانت إنجلترا هي المسئول الأول عما جرى في البلدين . وقد إستمر الصراع بين إنجلترا وأيرلندا إلى أن قرر البلدين توقيع معاهدة عام 1921 كانت أيرلندا أثناءها في حالة بائسة جدا من فقر وبطالة وعوز تم فيها الاتفاق على فصل الجزء الشمالي بمقاطعاته الستة عن أيرلندا وضمه إلى التاج البريطاني . وبعد عام واحد تشكلت النواة الأولى للجيش الجمهوري الأيرلندي الذي قام بعض عناصره باغتيال الزعيم الأيرلندي مايكل كولينز كرد فعل على توقيعه المعاهدة مع إنجلترا. أخذت المقاومة منذ ذلك الحين تشتعل وتخبو حتى الموجة الأخيرة التي بدأت من خمسة وثلاثين عاما ، وانتهت منذ أيام بالإعلان المفاجئ من الجيش الجمهوري وجناحه السياسي (شين فين) الذي يتزعمه جيري أدامز، وهو أكثر السياسيين الأيرلنديين جاذبية وكاريزمية. والشين فين هو الحزب الذي يمثل الجمهوريين الكاثوليك الداعين إلى إعادة توحيد أيرلندا ، بينما هناك أحزاب أخرى تمثل الوحدويين البروتستانت الموالين لانجلترا. لم تكن إنجلترا هي السبب في مأساة فلسطين وأيرلندا فقط . ولكنها تقف أيضا وراء مأساة كشمير المسلمة التي سلمتها ، قبل رحيل قواتها عن المنطقة ، إلى حاكم هندوسي قام بضمها قسرا إلى الهند ، تماما كما قامت بتسليم فلسطين إلى اليهود قبل رحيل قواتها. قامت إنجلترا أيضا بضم أسكتلندا (شمال بريطانيا) وويلز (جنوب غرب بريطانيا) بالقوة إلى التاج البريطاني . وعندما كنت أعمل في جامعة أكسفورد خلال التسعينات ، لم أقابل أسكتلنديا أو أيرلنديا أو ويلزيا إلا وأعرب لي عن كراهيته للإنجليز. بل إن الأسكتلنديين لا يتأثرون كثيرا عندما ينهزم فريقهم لكرة القدم من فريق ألمانيا أو فرنسا ، وإنما يعتبرونها كارثة إذا إنهزم فريقهم من فريق إنجلترا . وكان الفنان الشهير ميل جيبسون قد قدم مأساة إسكتلندا على الشاشة من خلال فيلمه المعروف (القلب الشجاع) الذي حاز به على جائزة الأوسكار. أتحدث اليوم عن أيرلندا لأن إعلان الجيش الجمهوري إلقاء سلاحه ووقف نشاطاته العسكرية وسعيه إلى تحقيق أهدافه عبر الوسائل السياسية ، هو حدث في غاية الأهمية فيما يتعلق بفلسطين والعراق ومبدأ المقاومة المسلحة ذاته. فالمعارضون لمقاومة الاحتلال بالقوة يصرون على أن الأوطان يمكن أن تتحرر بالتفاوض وطمأنة المحتل إلى أمنه (أمن الإسرائيليين واستمرار وجودهم، وأمن إمدادات النفط لأميركا من العراق وأمن الوحدويين الموالين لإنجلترا في ألستر). ومافعله الجيش الجمهوري الأيرلندي سيكون بمثابة إختبار حقيقي لهذا الزعم : هل ستتحرر أيرلندا الشمالية من الاحتلال البريطاني بالتفاوض ؟ هل سيحصل الكاثوليك على حقوقهم وتتحقق مساواتهم بالبروتستانت عن طريق طمأنة الأخيرين على أمنهم ؟ وهل ستتوحد أيرلندا بشمالها وجنوبها كما توحدت ألمانيا بشرقها وغربها؟ هل وجود القدس في فلسطين سيكون هو أهم مايميز القضيتين عن بعضهما ؟ السبب الآخر لأهمية الحدث نراه في رد فعل صهاينة أميركا وبريطانيا وإسرائيل عليه ، الذي ظهر فيه إرتفاع معنوياتهم فيما يتعلق بإمكانية تكرار ماجرى في أيرلندا مع حزب الله وحماس والمقاومة العراقية. فقد كتب هؤلاء في عدد من الصحف يتفاخرون بما حققته الاستراتيجية البريطانية العسكرية والسياسية من انتصار على إرهاب الجيش الجمهوري "الذي فشل في تحقيق هدف توحيد أيرلندا". وفي تشخيصها لدوافع قرار الجيش الجمهوري ، قالت الصنداي تايمز أن "التغيير الكبير الذي أحدثته واقعة 11/9 في نظرة العالم إلى الإرهاب أثر في الأمريكيين الأيرلنديين" الذين كانوا دائما من أقوى أنصار الجيش الجمهوري ، وأهم مصادر تمويله ، والذين توقفوا عن دعم المنظمة بعد 11/9. وتخلص الصحيفة إلى أن الفضل يعود إلى أسامة بن لادن في قرار الجيش الجمهوري الأخير. [email protected]