فضيحة "ووترجيت" الأمريكية التي تفجرت في سبعينات القرن المنصرم ، كانت - لمن لا يعرف- سببا لخروج الرئيس الأمريكي "نيكسون" من الحكم - قبل إتمام فترة حكمه - لأنه سمح لنفسه التجسس على حزب معارض ، وأباح لإدارته استخدام الأجهزة الأمنية للدولة للتنصت على المعارضين . وفي التقاليد الديمقراطية العريقة ، يعد هذا الفعل جريمة سياسية وخيانة للأمانة التي أولاها الشعب للرئيس . فالنظام الديمقراطي (الحقيقي) يحدد سلطات الرئيس ويمنعه من استخدام الأجهزة الأمنية في إدارة الحياة السياسية والتعامل مع المعارضين . فما دامت اللعبة السياسية تدور في إطار الشرعية ، ومن خلال التداول السلمي للسلطة بالطرق الديمقراطية ، لا يحق سياسيا ولا وطنيا للرئيس -أي رئيس- أن يكلف أجهزة الدولة بما فيها الأجهزة الأمنية بأمر يصب في مصلحته الشخصية أو الحزبية ، أو يستخدمها لإضعاف معارضيه وتمديد بقائه في الحكم . أما جهاز الأمن في الدولة الديمقراطية فهو مكلف بدور وطني واحترافي لا يتخطاه . ينحصر هذا الدور في تأمين الأفراد والبلاد من أخطار الجرائم والعنف الجنائي والإرهاب . أما السياسة فجهاز الأمن الوطني (المحترف) ينأى بنفسه عنها وعن مجرياتها وصراعاتها . هذا في الخارج ، أما في بلادنا ، فالأمر مختلف تماما .. فالسلطة لا تجد غضاضة في التجسس على المعارضين ، وترى هذا الفعل (طبيعيا) ، وتأمر الأجهزة الأمنية بالتنصت على المعارضة ومراقبة تحركاتها ، وعدّ أنفاس المعارضين والتفتيش في حياتهم الشخصية للوصول إلى نقاط ضعف في سيرتهم الذاتية ، قد تستخدمها عند اللزوم .. وكلنا نتذكر تهديدات وزير الداخلية السابق "زكي بدر" الذي تباهى ذات مرة في مجلس الشعب بأن المعارضة تحت السيطرة الأمنية الكاملة ، وأنه يعرف زلات المعارضين ويستطيع أن يحضرهم (بلابيص) !! . لم تكتف السلطة بهذه الأفعال المشينة ، ولم تتوقف تجاوزاتها عند هذا الحد ، بل سعت أيضا إلى اختراق صفوف المعارضة بزرع عملاء للأمن ينقل إليها الأخبار والأسرار ، التي تطير سريعا إلى الحزب الحاكم (المنافس السياسي) لكي يستخدمها في تخويف المعارضين وإرهابهم .. وقد تمتد التدخلات الأمنية السافرة إلى حد إغواء عناصر حزبية مشبوهة من ضعاف النفوس ، لكي تستخدمهم عند الحاجة لإحداث انشقاقات داخلية في الأحزاب تتيح للدولة تجميد الحزب المعارض أو إضعافه وجعله شكلا ممسوخا لا حياة فيه ، ولكي تضمن إبقاء المعارضة في إطار الدور الشكلي (الديكوري) المسموح به . هذا ما حدث من قبل مع حزب "العمل" عندما ارتفعت نبرة معارضته ، وحاولت صحيفة "الشعب" تخطي السقوف المحددة في انتقاد المسئولين . وكانت النتيجة تجميد الحزب وإغلاق الصحيفة . وهذا ما يحدث حاليا مع حزب "الغد" ، الذي استشعر النظام خطره ، ورأى فيه تهديدا (سياسيا) قد يمثل خطرا على مستقبله . فكان التدخل السريع للأمن بتلفيق تهمة التزوير ل "ايمن نور" ، ثم الانشقاق الحالي من عناصر مخترقة لتجميد الحزب أو إضعافه قبل الانتخابات البرلمانية القادمة . وهذا ما سيحدث مع كل حزب أو تيار سياسي في المستقبل ، طالما استمرت السلطة في استخدام أجهزة الدولة في الصراع السياسي .. وما دام الرئيس يشخصن الحكم والسياسة ويعتبر أن معارضيه أعداء للوطن وان قمعهم وتسليط الأمن عليهم واجب وطني ليس منه بد لإبعاد الشرور عن البلاد (!!) وتحقيق الاستقرار (استقرار المنصب طبعا) . النظام المصري اعتاد منذ زمن طويل ممارسة هذه الأفعال والتجاوزات وتمرس عليها حتى أدمنها ولم يعد يستطع التخلص منها ، وبالتالي فهو ليس مستعدا الآن لتغيير أسلوبه وتعديل منهجه إلى التعامل الديمقراطي مع المعارضين ، لأنه ليس مؤهلا لذلك .. ولكن ما هو رأي أقطاب ومنظري لجنة السياسات الذين يبشروننا بالفكر الجديد ، وما هو موقفهم من هذه الأفعال السلطوية الغاشمة ؟ .. ما هو رأيهم في استمرار قانون الطوارئ ، واعتقال الآلاف من دون محاكمة ، وفتح سلخانات التعذيب في مقار الأمن ؟ .. وماذا يقولون في موضوع تجميد حزب "العمل" ورفض تنفيذ الأحكام القضائية بعودته ؟ .. وما رأيهم في استمرار اعتقال "عصام العريان" من دون ذنب ، غير أنه يمثل موهبة سياسية صاعدة ، وما هو موقفهم من اشتداد الحملات الأمنية والإعلامية ضد حزب "الغد" ورئيسه "ايمن نور" لأنه أصبح منافسا سياسيا عنيدا .. ونسألهم هل هذه الممارسات تتوافق مع العصر الديمقراطي الجديد ، أم تنتمي إلى عصور الاستبداد في القرون الوسطى . وإذا كان الرئيس الاميركي "نيكسون" قد اجبر على تقديم استقالته كثمن لارتكابه مخالفات "وترجيت" التي تبدو بجانب مخالفات حكومتنا وكأنها مجرد هزار خفيف ومداعبة لطيفة .. فما هو يا ترى الثمن الذي يجب أن تدفعه السلطة كجزاء لهذه التجاوزات الرهيبة في حق المعارضين المصريين .. المؤكد أنه مهما طال الزمن فان يوم الدفع ات لا ريب فيه . [email protected]