أوضاع البشر في كثير من الأمم لا تحتمل أن يعبث المرء بإنسانيتهم، وأعظم العبث بها حينما يكون الشعب كادحا متعبا منهكا مهترئا، والأمة مقهورة من الجوع والمرض والفقر، يصرعها الشقاء وتؤرقها التعاسة، ثم نرى الحاكمين مثلا ينفقون أموالها في غير مصالح الشعب الضائع الجائع، ويسرفون في الترف والزينة، والأمور التي لا تسمن ولا تغني من جوع. لاشك أن هذا من مساخر الزمن، وقسوة البشر، وظلم الانسان لأخيه الانسان. من قديم ونحن نتحدث ولا نتوقف عن أهمية الانسان، وأن الادمي بنيان الرب ملعون من هدمة، والشروع في تنظيم مظاهر الترف بينما الشعب غارق في الفقر والجوع والمرض خيانة فاجرة، لا تمحوها الأيام ولا تغفلها السنون. "كتب الحجبة إلى عمر بن عبد العزيز يأمر للكعبة بكسوة كما يفعل من كان قبله، فقال: «إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة فإنهم أولى بذلك من البيت» ومما أذكرأن الشيخ القرضاوي عاب في كتابه الشهير (فقه الاولويات) هؤلاء المسلمين الذين ينفقون الأموال للحج كل عام، بينما يتركون الفقراء والمساكين والمحتاجين من المسلمين ضائعين مشردين، ونوه بصرف المال في وجوهه النافعة كنشر الدعوة إلى الإسلام، أو مقاومة الكفر والإلحاد، أو في تأييد العمل الإسلامي لإقامة الحكم بما أنزل الله، أو نحو ذلك من الأهداف الكبيرة التي قد تجد الرجال ولا تجد المال، فهيهات أن تجد أذنا صاغية، أو إجابة ملبية، لأنهم يؤمنون ببناء الأحجار، ولا يؤمنون ببناء الرجال!" هناك شباب يحتاجون للتعليم ولا يجدون المال الذي يبلغهم غايتهم، وتكون منهم عقول تذخر بها الأمة! هناك شباب يريد أن يتزوج ويحصن نفسه، ويكّون أسرة جديدة تكون لبنة قوية في بناء الامة، لكنهم فقراء لا يجدون، ولا يستطيع هؤلاء الأثرياء الذين يحجون كل عام أن يستوعبوا المأساة، لأنهم مغيبون وغارقون في مشاعر من الايمان الزائف.! نعم إيمان زائف، فالإيمان الحقيقي لا يكون إلا في القلوب الحية التي ترق للمسلمين، وتشعر بحالهم ومآسيهم وتلبي غير متوانية أو متكاسلة لنجدتهم من أزمتهم. في رحلات الداعية الشيخ (عبد الرشيد إبراهيم) ما يدلل على أن هذا السفه يطال كثير من الأمم على اختلاف معادنهم وأصنافهم وأجناسهم.. فقد شهد وهو في الصين عام 1909م دفن امبراطورة ماتت عام 1908 أي أنها دفنت بعد عام من موتها، وتيسر له حضور مراسم الدفن، وشهد من مظاهر البذخ والاسراف، ما دعاه أن يعلق بقوله: لو صرفت هذه المصاريف على بلدية بكين لأمكن إصلاح عدة شوارع، ولكن الله أعمى بصائرهم، فصرفوا هذه النعم في أمور لا طائل منها، إنه عجيب حقا، ثم فكرت مرة أخرى وحمدت الله أن هدانا للإسلام، فإن المسلم إذا مات لفوه في القماش ثلاث مرات وعجلوا في دفنه ودعوا له بالرحمة." وكانت شوارع الصين في ذلك الوقت قمة في القذارة حتى أنه قال: إن أقذر شوارع استنبول هو أحسن حالا من أنظف شوارع بكين. ولكن ماذا لو قدر لعبد الرشيد اليوم أن يكون حيا ليشهد الصين التي ذكر شينها بالأمس؟ ماذا عساه أن يقول؟؟ لا شك أنه سيتحسر كثيرا على حال المسلمين أمام هؤلاء الناس الذين أفاقوا وقاموا واجتهدوا وتقدموا، بينما نحن المسلمين تراجعنا وتأخرنا وتقهقرنا للوراء.!