علمتنا السياسة الشرعية النبيلة،أَن تنصيب رئيس لأي بلد إسلامي،واجب بإجماع علماء الأمة،طالما كان أهلاً لها،علي أساس أن الرئاسة موضوعة لخلافة النبوة،فيما يتعلق بحراسة الدين وسياسة الدنيا،لأن الهدف الرئيس من تولي شخص ما رئاسة بلد معين،هو إعمار أرضها،وإقامة العدل فيها،وهذا أمر واجب،ووفقاً لقواعد أصول الفقه،فإن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وكان مما جاء في فضل الرئيس العادل:قول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251) ، يعني لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف وينصف المظلوم من الظالم، لأهلك القوي الضعيف، ولتواثب الخلق بعضهم إلى بعض، فلا ينتظم لهم حال،ولا يستقر لهم قرار فتفقد الأرض ومن عليها، ثم امتن الله تعالى على الخلق بإقامة السلطان، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251) ، يعني في إقامة السلطان في الأرض،فيأمن الناس به، فيكون فضله على الظالم كف يده،وفضله على المظلوم أمانة وكف يد الظالم عنه. وقد روى الترمذي،بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل ،..".وروي الإمام البخاري،بسنده عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل..."وتعلمنا أن الرئيس كالسيل المنحدر من الربوة،إِن أَرَادَ الْمَرْء أَن يصرفهُ إِلَى نَاحيَة من النواحي،وواجهه أهلك نَفسه،وأتى عَلَيْهِ السَّيْل فأغرقه،وَإِن سعي مَعَه،وعَلى جانبيه،وتلطف ليصرفه إِلَى النَّاحِيَة الَّتِي يريدها،بِأَن يطْرَح فِي بعض جوانبه مِقْدَارًا من السدد،ويطرق لَهُ من الْجَانِب الآخر،أمكن صرفه إلي حيث شاء.كما تعلمناأن كثيراً من الرؤساء يعتقد أن له وحده،ودون غيره الحق في استخدام الشعب واستعباده،وأن كثيراً من الناس يزينون للرئيس جَمِيع مَا يأتيه من فعل أو قول(صواباً كان أم خطئاً)،وَإِنَّمَا يستشعر الرئيس هذا،ويعيش عليه،لِكَثْرَة مدح النَّاس لَهُ،وإطرائهم أَعْمَاله،وتصويبهم آرائه الخاطئة.كما تعلمنا أن من المندوبات السياسية،أن يظهر الرئيس لشعبه أنه لا غناء له أبداً عنه،لا أن يرغمهم علي استيعاب أنهم لا شيئ بدونه.كما تعلمنا أن علي الرئيس الاجتهاد في جعل طَاعَة الْخَاصَّة والعامة لَهُ طَاعَة محبَّة لَا طَاعَة رهبة،لأنهم إذا أطاعوه عن حب حرسوه ،وَإِذا أطاعوه رهبة احْتَاجَ هو إِلَى الِاحْتِرَاز مِنْهُم.ولسنا نعني بِزَوَال الرهبة هنا خلو قُلُوب الشعب مِنْهَا بالكلية،وَإِنَّمَا نعني أَن يَكُون الناس فِي حَال رهبتهم لَهُ واثقين بعدله،آمِنين من تعسفه وظلمه،فَتكون الرهبة حِينَئِذٍ كمخافة الْوَلَد لوالده،بِرِفْق أَو أدب،وَيعلم أَنه لَا يُرِيد إِلَّا خيرا لَهُ.كما تعلمنا في فن الحكم،أن علي الرئيس أن يقف علي أخبار الماضين،ليتجنب أقبحها ويعتمد أصلحها،وهذا الباب تحديداً يعتبره الساسة من أعظم أبواب الحكم الرشيد. كما تعلمنا أن خاصة الرئيس،ك(كاتمي أسراره،ومديري مكتبه،وسكرتيره الخاص،وحراسه) هم كالأعضاء للبدن،فَمَتَى لم تكن الْأَعْضَاء على الْهَيْئَة الفاضلة،أَو تعرضت لأمر أثني كلهَا أَو بَعْضهَا عَن وظيفته الأصلية،وَقع الِاضْطِرَاب فِي جملَة الْبدن.كما تعلمنا أن الشدَّة والعنف لَا تصلح لكل الناس،وأن اللين والمساهلة لَا تجوز فِي معاملة كلهم، فَمنهمْ من تفسده الْكَرَامَة،وَمِنْهُم من تفسده الإهانة وتعلمنا أن علي الرئيس إكرام الأخيار من الطَّبَقَات المختلفة،وقمع الأشرار فيها،لا أن يفعل عكس ذلك.وتعلمنا أَن كثيرا من الْفِتَن تهيج بشكاية الضُّعَفَاء وحقد الْأَغْنِيَاء،وَأن علي الرئيس أَن يتَنَاوَل مَا بعد مِنْهُم عنه من السياسة وَالْعدْل بِمثل مَا يتَنَاوَل بِهِ الْقَرِيب، فليس بسائس حكيم من خص بحزمه وعدله بعض أفراد شعبه.وتعلمنا أن الحاكم السعيد هو من حرس الرّعية بتدبيره وَلم يَضَعهَا بتدميره.وتعلمنا أن انتهاء حكم أي رئيس،يكون إما بسبب عجزه (وللعجز أسباب)،وإما بسبب الظلم والجور.وتعلمنا أن أي رئيس لن يطول حكمه إلا إذا تأسس علي قواعد ثلاث،الأولي:إقامة الدين وحفظه.والثانية:قوة (أساسها جيش ذو كثرة،وشجاعة وأمانة،ورئاسة لذي فضل ورأي)،والثالثة:ثروة (أساسها المال وقوة الاقتصاد).وتعلمنا أن من فن الحكم أن يتعاهد الحاكمُ العلماءَ المخلصين،وأن يستبطنهم،فلولاهم ماعُرف حق من باطل،ولا صحة حكم من فاسده،فبالعلماء يُعرف ويُوسم،إذ الإنسان موسوم بسيم من قارب،ومنسوب إليه أفاعيل من صاحب،تصديقاً لقول الحبيب محمد،صلي الله عليه وسلم:"الْمَرْء على دين خَلِيله فَلْينْظر أحدكُم من يخالل".وبالعلم فقط يحفظ الرئيس مكانته ودولته،ويقوم ملكه ويشتد.وفي ذلك يقول أفذاذ السياسة الشرعية،بشأن أهمية اختيار الرئيس للعلماء أعواناً،ودورهم الخطير في مساعدة الرئيس في الارتقاء بالدول،والقضاء علي الفساد والمفسدين،حتي وإن كان الرئيس جاهلاً،وفي هدم الجهال للدولة وللرئيس وإن كان الرئيس عالماً:" فَإِن استبطنوا الْعلمَاء قضوا عَلَيْهِم بِالْعلمِ وَإِن جهلوا،وَإِن استبطنوا الْجُهَّال قضوا عَلَيْهِم بِالْجَهْلِ وَإِن علمُوا" وتعلمنا في شأن المشاورةأن لا ينفرد رئيس برأيه دون ذوي الرأي من إخوته،ولا يمنعه عزمه على إنفاذ رأيه وظهور صوابه عن الاستشارة،ألا ترى أن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ابنه عزمة لا مشورة فيها، فحمله حسن الأدب وعلمه بموقعه في النفوس على الاستشارة فيه، فقال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (الصافات: 102) . ومما ورد فيالتراث:أن المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي أخلاق المخلوع، يعني أخاه الأمين. فقال: كان واسع الصدر ضيق الأدب، يبيح من نفسه ما تأباه همم الأحرار ولا يصغي إلى نصيحة ولا يقبل مشورة، يستبد برأيه فيرى سوء عاقبته ولا يردعه ذلك عما يهم به. قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: يجمع الكتائب بالتبذير ويفرقها بسوء التدبير. فقال المأمون: لذلك ما حل محله. أما والله لو ذاق لذاذة النصائح، واختار مشورات الرجال وملك نفسه عند شهوتها ما ظفر به.وها نحن،ومن منطلق حق الحاكم علينا،وواجبنا نحوه،نضع يده علي مواطن القوة والضعف في سياسة بلدنا الحبيب،كنصيحة أمينة سيسألنا الله عنها،تصديقاً لقول رسول الله محمد،صلي الله عليه وسلم،فيما رواه الإمام مسلم،عن تميم الداري"الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال:"لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".وهانحن ننصح لله ولرسوله ولرئيسنا،ولعامة المسلمين،إبراءً للذمة،عملاً لأضعف الإيمان،إذ لا خير فينا إن لم نقلها. وأخيراً أردد قول الشاعر الجاهلي:لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا.