لا تغيب عن ذاكرة مصرى عقب 25 يناير تلك اللمحة الرائعة التى قدمها اللواء. محسن الفنجرى، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، عندما وقف بشموخ وإباء موجهاً التحية العسكرية لشهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير حيث قال: "إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتوجه بكل التحية والإعزاز لأرواح الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداءً لحرية وأمن بلادهم". وكما هو معلوم فإن التحية العسكرية تؤديها الرتبة الأدنى للرتبة الأعلى منها، وهى تحية لها دلالة عميقة وعبقرية تعنى أن دماء الشهداء كانت ثمناً بذله الشهداء رخيصاً من أجل كرامة جميع أبناء مصر مدنييهم وعسكرييهم. هذه اللمحة أعادت لأذهان الشعب المصرى فخره واعتزازه بقواته المسلحة، التى أحرزت النصر وأعادت الكرامة وسطرت فى صفحات التاريخ ملاحم البطولة والفداء، هذه اللمحة جعلت الشعب يركن إلى الاطمئنان وينزع إلى الثقة فى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قادر على إزالة آثار الفساد، كما أزال آثار العدوان والهزيمة على جبهات القتال، لا سيما أنهم وعدوا بتسليم السلطة فى غضون سنة لرئيس وبرلمان منتخبين، وهو ما جعل الثوار يتصرفون بنبلٍ ما سبقهم إليه أحد فى التاريخ، فلم تُقَمِ المشانقُ، ولم تُشَكَّل المحاكمُ الثوريةُ، ولم يُصْلَب المجرمون الذين خلعهم الميدان، بل كانت الرغبةُ إرساءَ دعائمِ دولةِ القانون، لكن يبدو أن الرياح لم تأتِ بما تشتهى الثورةُ والثوار، فسرعان ما تَحَوَّلَ الزاهدون فى السلطة إلى طامعين فيها، فبدأت مرحلة يشوبها الريبة والتوجس حيث لم يتحرك المجلس العسكرى خلالها إلا تحت وطأة الضغط الشعبى الجارف؛ فلم يتحرك المجلس العسكرى طواعية واختياراً تجاه محاكمة المجرمين وأهمل ملف استعادة الأموال، بل كانت دائمًا المليونيات والميادين بحشودها هى القاطرة التى تدفع المجلس العسكرى دفعاً للوفاء بالاستحقاقات الثورية فأُحيلَ المخلوع وأعوانه إلى المحاكم، التى بدأت وكأنها محاكمات حقيقية، وضاع الوقت، ولم تنتهِ إلى قرار بل ظهرت إشارات غير مريحة بتبرئة كثير من قتلة الثوار. ثم تمت الانتخابات البرلمانية بسلام رغم ما سبقها من إرهاصات، وأفرزت مجلسًا لا يملك من أمره شيئاً، ولا يحرك ساكناً، وكلما حزبه أمرٌ هَمَّ بتشكيل اللجان. ثم أُغرقت البلاد فى فتن وأزمات سياسية واقتصادية مفتعلة تحرَّك من وراء ستار حتى اقترب موعد الانتخابات الرئاسية فارتفعت وتيرة الإجرام وانتشرت الحرائق بشكل ممنهج ومخطط ومدروس، أعقبه الدفع لانتخابات الرئاسة ببعض الرموز الذين قامت الثورة ضدهم، ومن أجل إقصائهم كان مكانهم الطبيعى السجون لا الجرأة على الشعب بالتهديد بفتح الصناديق السوداء. وكانت ثلاثة الأثافى الهجوم الوحشى الذى تعرض له المعتصمون السلميون فى ميدان العباسية سقط فيه الأبرياء، وسالت الدماء تحت سمع وبصر رجال الجيش؛ لِبَثِّ حالةٍ من الرعب تبرر الانقلاب على الثورة وإلغاء الانتخابات، وإعلان الأحكام العرفية لاسيما أن قتلة الثوار يحصلون على البراءة فى قضية تلو الأخرى بما يمهد لتبرئة المخلوع. وأمام هذا العبث الذى يسيطر على المشهد يروج المجلس العسكرى مقولة لا تقنع أحداً بأنه يدير ولا يحكم، وسواء أدار المجلس العسكرى أو حكم فهو المسئول الأول عما آلت إليه أحوال البلاد من تَرَدٍ وانهيار تتمثل شواهده فى تآكل المخزون النقدى من العملات، والانهيار المتسارع فى مؤشرات البورصة والخلل الواضح فى ميزان المدفوعات بسبب الإصرار على حكومة جاءت خصيصًا من أجل إغراق البلد فى المشاكل والأزمات. فهل يحافظ المجلس العسكرى على ما بقى له من مكانة طيبة فى نفوس البعض؟ أم يعاند ويكابر ويدخل البلاد فى متاهات لا يعلم مداها إلا الله؟. والله من وراء القصد وهو الهادى إلى سواء السبيل.