مازلت أؤكد أن العمل الصعب هو تغيير الشعوب، أما تغيير الحكومات فإنه يقع تلقائيًا عندما تريد الشعوب ذلك.. الثورات يرسمها المثاليون، وينفذها الفدائيون، ويرثها المرتزقة!! ترى لو كان المثاليون والفدائيون على قلب رجل واحد فى الإيثار والتجدد، أكان يبقى للمرتزقة موضع قدم؟ إن أخطاء خفية، نستخف بها عادة، هى التى تنتهى بذلك المصير. هذا التشخيص الدقيق، والوصف المتميز لواقعنا الحالى ليس من عندى، كم كنت أتمنى لو كان يعيش صاحب هذه الكلمات بيننا الآن، فيرصد لنا الطريق ويضيئه، كم أتمنى لو كان يخطب فينا من ميدان التحرير، أو أنه عايش لحظة دخول مبارك قفص الاتهام، فتتحقق سعادته التى طالما حلم بها، ولمَ لا؟ فهو قالها بوضوح أنه (لا يسر قلبى شىء مثل أن أرى اختفاء الجبارين، وفراغ أيديهم من أسباب البطش، ووسائل الغلبة والقهر، وانكشاف مواهبهم بعد زوال الحكم، وزوال ما يضيفه الحكم على ذويه من مواهب فارغة). ولكن حسبه أن كلماته وأفكاره لا تزال تحيا بيننا، وها نحن نستدعيها فى الذكرى السادسة عشرة لوفاته التى وافقت هذا الأسبوع، عاش الشيخ "محمد الغزالى" فى فترة كان تروج فيها فكرة البيعة المطلقة للحكام، وتحريم الخروج عليهم أيًا كانت الأسباب، كان مجرد الحديث عن معارضة الحاكم يلاقى بهجوم شرس، فما بالك بالخوض فى فكرة الثورة، دعونا نقتبس اليوم بعضًا من كلمات "الغزالى" التى تساعدنا على رؤية الواقع الحالى، فنفهم ديننا من زاوية مختلفة، لا تحيا فى الماضى، وإنما تعيش الحاضر، وتفكر فى المستقبل. كان فكر "الغزالى" يمثل ثورة حقيقية على مفاهيم ترسخت فى العقول طويلاً، وأعطت الأولوية للتدين المظهرى، البعيد عن مفردات الواقع، لم يكن من السهل على الكثيرين أن يتفهموا كلامه حينما قال (لو قضى المسلم عمره قائمًا إلى جوار الكعبة، ذاهلاً عما يتطلبه مستقبل الإسلام من جهاد علمى واقتصادى وعسكرى، ما أغناه ذلك شيئًا عند الله.. إن بناء المصانع يعدل بناء المساجد). نذر نفسه من أجل مهمة تصحيح الفكر الدينى، وتطوير فهمه لدى المسلمين، ولاقى الكثير من الهجوم حينما كتب (لنترك الآن أنواع العلوم التى انشغل المسلمون بها، والتى ظنوها للأسف هى العلم الجدير بالتحصيل والتفرغ، ولننظر ماذا كسبنا من قلة الدراية بالعلوم المادية والرياضية والكونية والصناعية وغيرها؟ وأين استقرت بنا النوى بعد رحلة فى العلوم النظرية والقضايا الترفيهية استغرقت عدة قرون؟.. لقد رأيت فى أوروبا وأمريكا دولاً شتى، تشرع قوانين دقيقة لضبط سياسة المال والحكم، وذلك لأنها تعرضت لنزوات الجور والطغيان، قال لى البعض: هذا ما نخافه منك.. أن تستورد الإصلاح من منابع بعيدة عن ديننا وتراثنا.. ونحن أغنياء عن مقترحاتك تلك..! قلت: تمنيت لو كانت غيرتك هذه فى موضعها! إننى معتز بدينى ولله الحمد، ولكن ليس من الاعتزاز بالدين أن أرفض الجهاد بالصواريخ والأقمار الصناعية لأنها بدعة!.. إن النقل والاقتباس فى شئون الدنيا، وفى الوسائل الحسنة ليس مباحًا فقط، بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب). من حق الأجيال الجديدة من الشباب التى لم تعاصر الغزالى، أن تتعرف عن قرب على هذا الرجل، وتنهل من كتاباته، صحيح أنه لاقى فى حياته وبعد مماته الكثير من الظلم والهجوم، ولكن حسبه أنه اجتهد فى فهم الإسلام بشكل مختلف، وتعمق فى جوهره، بعيدًا عن القشور، وأجدنى أختم بمقولته التى تستحق منا الكثير من التأمل: (ليست العودة إلى الإسلام أن نكتب على رايتنا الله أكبر، بل العودة إلى الإسلام أن نملأ قلوبنا بالله أكبر، ونجعلها باعث أعمالنا وهدف حياتنا)[email protected]