ما إن اقتحم عدد من الطلبة المحسوبين على التيار السلفي كلية الآداب بمدينة "منوبة" في غرب تونس في 7 مارس، إلا وحذر كثيرون من أن هذا التطور المؤسف من شأنه أن يضاعف مأزق ثورة 14 يناير، خاصة في ظل الجدل المتصاعد في البلاد حول اعتماد "الشريعة الإسلامية" كمصدر أساسي للتشريع في الدستور الجديد. وكان طلبة سلفيون قاموا بإنزال علم تونس من وسط ساحة كلية الآداب بمدينة منوبة ورفعوا مكانه "الراية السوداء" التي ترمز إلى الخلافة الراشدة. وذكرت وكالة "يونايتد برس إنترناشونال" أن أجواء من التوتر تخيم على كلية الآداب بمنوبة، حيث تم الاعتداء على عميد الكلية، وعلى عدد من الطلبة، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن طلبة التيار السلفي يتصرفون وكأنهم يشاركون في "غزوة". وفيما أكدت الوكالة أن الأحداث السابقة اندلعت على إثر معاقبة 6 طلبة سلفيين بسبب "إثارة البلبلة" داخل الجامعة، أشار عميد كلية الآداب بمنوبة الحبيب الكزدغلي في تصريحات للإذاعة التونسية إلى أن الدروس توقفت بالكلية بسبب ممارسات عدد من الطلبة السلفيين. وأضاف الكزدغلي أن عددا كبيرا من الملتحين من خارج الكلية شاركوا في هذه الممارسات، رافعين الرايات السوداء التي كتب عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وعلى الفور، وصفت الرئاسة التونسية إقدام عدد من الطلبة المحسوبين على التيار السلفي بإنزال علم تونس من فوق بناية في كلية الآداب بمنوبة في غرب تونس العاصمة، واستبداله براية سوداء ترمز إلى الخلافة الإسلامية ب "العمل الجبان، والجريمة في حق الوطن". واستنكر الناطق باسم الرئاسة التونسية عدنان منصر في بيان له هذا العمل الذي قال إنه يصنف في إطار الاعتداء على أحد أهم الرموز الوطنية، والوعي الوطني الجماعي الذي استشهد من أجله تونسيون كثيرون على مر التاريخ النضالي المشترك ضد الاستعمار والاستبداد. ودعا منصر السلطات الأمنية والقضائية إلى التعامل مع هذه الحادثة وغيرها من الحوادث المماثلة بأقصى درجات الصرامة والقوة حتى لا يتجرأ أحد بعد ذلك على المس بالراية الوطنية. ومن جانبها، دعت حركة "كلنا تونس" في بيان لها إلى التعبئة أمام المجلس الوطني التأسيسي" البرلمان" للدفاع عن مبادئ المواطنة وحرمة الوطن وسيادة تونس إلى جانب الدفاع عن مكاسب المرأة. وقالت الحركة إن هذه الدعوة تأتي بعد اقتحام مجموعة من السلفيين الحرم الجامعي بمنوبة وتعمدهم نزع علم تونس ووضع الراية السوداء بدلا عنه، واستنكرت في هذا الصدد ما وصفته ب" انتهاك حرمة المؤسسة الجامعية دون أية ردة فعل من الحكومة، مطالبة الرئيس التونسي المنصف المرزوقي وحكومة رئيس الوزراء حمادي الجبالي بموقف صارم يرتقي إلى مستوى ما حصل من انفلات وتجاوزات لا يمكن السكوت عنها. وبالنظر إلى أن حادثة منوبة تزامنت مع المواجهة المتصاعدة بين قوات الأمن التونسية من جهة والجماعات السلفية الجهادية التي يعتقد بعلاقتها بتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي من جهة أخرى، فقد تضاعفت المخاوف من احتمال تطور المواجهة بين حكومة الجبالي والسلفيين إلى ما لايحمد عقباه. ولعل تصاعد الاتهامات التي توجهها أحزاب علمانية للحكومة التونسية التي تسيطر عليها حركة النهضة الإسلامية ويشارك فيها حزبان علمانيان هما "المؤتمر من أجل الجمهورية"، الذي ينتمي إليه المرزوقي، و"التكتل من أجل العمل والحرية" بالمعاملة اللينة مع من سمتهم "المتطرفين الدينيين"، تضاعف المخاوف في هذا الصدد، هذا بالإضافة إلى وصف الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في تصريحات له في 16 فبراير الماضي السلفيين ب"الجراثيم"، والتي تراجع عنها فيما بعد. بل وجاءت مطالبة حزب الانفتاح والوفاء التونسي بسن قانون جديد ينص على تعدد الزوجات، أو اعتماد نظام الجواري، ليضاعف مأزق ثورة 14 يناير أكثر وأكثر. وكان البحري الجلاصي رئيس حزب الانفتاح والوفاء أدلى بتصريح لصحيفة "الصريح" التونسية في 7 مارس طالب خلاله المجلس الوطني التأسيسي بأن ينص الدستور التونسي الجديد على حق كل تونسي في اتخاذ جارية إلى جانب زوجته، والتمتع بما ملكت يمينه. ودعا الجلاصي إلى إلغاء كل فصل قانوني يجرم هذه العلاقة التي وصفها ب "الشرعية"، مشددا في الوقت عينه على ضرورة "تقنين الجواري"، واعتبار ذلك حقا متاحا للرجال المتزوجين بواحدة، وتصنيف الجارية ضمن خانة "ما ملكت أيمانهم". واعتبر رئيس حزب الانفتاح والوفاء أن الجارية هي الحل الأنجع لإعادة التوازن الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع التونسي الذي تضرر بعلمانية قانون الأحوال الشخصية، وعانى على مدى خمسة عقود من الزمن من تجريم تعدد الزوجات. وبالنظر إلى أن التصريحات السابقة التي وصفت ب"القنبلة" جاءت فيما تستعد النساء التونسيات للاحتفال باليوم العالمي للمرأة، فقد حذر كثيرون من أنها ستزيد حدة الجدل داخل المجلس التأسيسي حول اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع في الدستور الجديد. وكان نواب حركة النهضة الإسلامية طالبوا باعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع في الدستور الجديد، حيث اعتبر الصحبي عتيق، رئيس كتلة حركة النهضة أن التخوف من الشريعة الإسلامية غير مبرر وناجم عن اعتقاد بأنها تختزل في المبادئ الزجرية والردعية. وفي المقابل، رفض النواب العلمانيون في المجلس الوطني التأسيسي هذا الطرح، وأعربوا عن خشيتهم من القراءات المتشددة للدين الإسلامي، وأصروا على الاكتفاء ب "التنصيص" في الدستور الجديد على أن الإسلام دين الدولة التونسية. وذكرت صحيفة "القدس العربي" اللندنية أن النواب العلمانيين طالبوا أيضا بإرساء المبادئ الأساسية للدولة العصرية دون التوظيف السياسي للدين الإسلامي، بدعوى أن الاصرار على اعتماد الشريعة الإسلامية مصدرا أساسيا أو مصدرا من بين مصادر التشريع التونسي يفتح الباب لتأويلات لا يعرف منتهاها. كما دعت منظمات نسائية وحقوقية إلى تنظيم مسيرة حاشدة أمام المجلس التأسيسي للدفاع عن حقوق المرأة، وحمايتها من "الهجمات الرجعية"، وصيانة قانون الأحوال الشخصية الذي ينص بالخصوص على منع تعدد الزوجات، والمساواة بين المرأة والرجل. وبصفة عامة، يحذر كثيرون من أن ثورة 14 يناير باتت مهددة بقوة بسبب المواجهة بين السلطات والسلفيين من جهة والجدل المتصاعد بين الإسلاميين والعلمانيين حول الدستور الجديد من جهة أخرى، ولذا لا بديل عن إطلاق حوار شامل في تونس على وجه السرعة للتوصل إلى حلول توافقية حول كافة القضايا الخلافية والشائكة.