كنت أود أن أخصص مقال اليوم للحديث عن خطاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى جامعة القاهرة بعد مرور عام كامل عليه، خاصة أننى كنت ضمن الوفد الصحفى الذى رافقه فى تلك الزيارة، ولى فيها ذكريات كثيرة ربما تسمح الظروف بروايتها يوما ما. إلا أن أحداث الهجوم الإسرائيلى الأخير على قافلة سفن الحرية المتجهة إلى غزة جاءت لتجسد وتختصر كثيرا من الأمور المرتبطة ليس فقط بإسرائيل، ولكن أيضا بكل من مصر والولايات المتحدة. فمن يريد أن يقدم كشف حساب لخطاب أوباما بعد عام، لن يجد أفضل من الأحداث الأخيرة لتكشف الكثير. ورغم التركيز المفهوم على إسرائيل، إلا أنها فى النهاية متسقة مع نفسها، كما أن سياستها تمثل تعبيرا عن مصالحها كما تراها حكومتها الحالية، حتى لو كان الثمن حملات تنديد عالمية صاروا معتادين عليها، وربما يتوقعون أن تهدأ سريعا كما يحدث كل مرة. لكن المشكلة الحقيقية كانت لدى كل من مصر والولايات المتحدة. فمصر أعلنت عن فتح معبر رفح ولقى القرار ترحيبا واسعا فى المنطقة، لكنه يظل قرارا مؤقتا وجزئيا، ولاأدرى إن كان لدى السلطات المصرية فكرة عن الخطوة التالية بعد أن تهدأ المشاعر، لكن ربما يكون من المفيد أن ندرك أن وسائل الإعلام العالمية تتحدث الآن عن »الحصار الإسرائيلى - المصرى« لقطاع غزة. وعندما يتم تخفيف العبارة فإنها تتحدث عن حصار إسرائيل لقطاع غزة »بمساعدة مصر«، وهو التعبير الذى استخدمته افتتاحية صحيفة النيويورك تايمز فى عدد الأربعاء الماضى، قبل أن تندد بالحصار. إننا يمكن أن نجادل لساعات حول السياسة المصرية بشأن »حماس« وما إذا كان إغلاق معابر غزة يمثل حماية للأمن القومى المصرى. لكن القضية الواضحة بلا جدال هى أن الهجوم الأخير على قافلة الحرية جعل مصر إعلاميا على الأقل- تبدو فى خندق واحد مع إسرائيل لفرض الحصار. وقد أحسنت القيادة المصرية بفتح المعابر فور الهجوم لتمييز موقفها عن إسرائيل، لكنه يظل قرارا تكتيكيا سيفقد تأثيره سريعا مالم تصحبه استراتيجية واضحة مصحوبة برسالة إعلامية تعبر عنها، وهو أمر ليس سهلا. فإسرائيل تتحدث مثلا عن »حماس الإرهابية«، والصواريخ التى تهدد مدنها كمبرر لفرض الحصار، لكن مصر لاتستخدم هذه اللغة، وبالتالى كانت رسالتها أقل إقناعا أو اتساقا مع سياستها. هذه أسئلة يجب التصدى لإجاباتها الآن فى إطار استراتيجية جديدة للتعامل ليس فقط مع المعابر ولكن قضية حماس والمصالحة الفلسطينية خاصة بعد أن أصبحت تركيا مرشحا قويا لتولى ملف المصالحة بعد مواقفها الأخيرة. ولن يجدى مصر كثيرا عندها أن يتحدث البعض عن علاقات إسرائيل المتشابكة مع تركيا، أو أن كلمات أردوجان النارية هى للاستهلاك المحلى. فمواقف مصر غير الحاسمة والتعبير الإعلامى الغامض عنها يترك فراغا لابد أن يشغله الآخرون فى نهاية الأمر. أما المشكلة الأخرى التى أثارتها الحماقة الإسرائيلية الأخيرة فكانت من نصيب إدارة أوباما، وهو- مثل مصر - يعيش فى المنطقة الرمادية.. لا أبيض ولا أسود. فواشنطن شعرت »بامتعاض« نتيجة الهجوم الإسرائيلى، لكنها فى الوقت نفسه لاتريد أن تدين إسرئيل بشكل مباشر أو أن يصدر قرار بهذا المعنى من مجلس الأمن الدولى. فهذا يتنافى مع التأييد التقليدى لإسرائيل، كما يدعم الفكرة التى راجت بأن أوباما أقل التزاما بأمن إسرائيل ومصالحها من سابقيه. كما أن واشنطن بدأت مؤخرا المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعلاقتها متوترة بحكومة نتنياهو، وهى لاتريد تصعيدا لهذا التوتر بما يهدد هذه المفاوضات. لكن واشنطن أيضا لاتريد إغضاب حليف تقليدى آخر هو تركيا خاصة بعد أيام من موقف »اللامبالاة« الذى أبدته إدارة أوباما تجاه الخطة التركية البرازيلية مع إيران لتخصيب اليورانيوم، بما أثار حفيظة أنقرة. ومع هذه التوازنات الدقيقة جاء موقف واشنطن الذى وصفته النيويورك تايمز بالمتردد أو المتحفظ، فهو يأسف للعنف، دون أن يدين مرتكبيه. لقد حلق أوباما فى خطابه بجامعة القاهرة وهو يرسم أحلام مدينة فاضلة للتسامح والسلام، لكنه سرعان ماتبين أن مشاكل المنطقة أكبر من أن تحلها عباراته البليغة. وقد اضطر للتنازل عن مطالبه فى الخطاب بالوقف الكامل للاستيطان الإسرائيلى بعد أن تأكد من صعوبة ذلك. هذه الواقعية هى أيضا التى حكمت رد فعله الأخير تجاه الهجوم الإسرائيلى، فأوباما قد يكون خطيبا ملهما، لكنه كرجل دولة لابد أن تحكمه مسؤوليات الحاكم وحسابات السياسى. ومابين أحلام الفتى الطائر فى جامعة القاهرة، والحسابات الواقعية لرجل الدولة، تتأرجح سياسات الرئيس الأمريكى، وتتأرجح معها أحلام وطموحات الملايين داخل وخارج أمريكا.