عندما أُعلن عن تولى الدكتور أحمد الطيب منصب شيخ الأزهر استبشر الناس خيرا، فالرجل ممن تعلموا فى جامعة السوربون، كالشيوخ الرواد: عبدالرحمن تاج ومصطفى عبدالرازق وعبدالحليم محمود، وبذلك فقد عرف الدنيا على حقيقتها، وعرف معنى الأخلاق والسلوك الإنسانى الواسع الذى لا يمكن تعليبه فى فتاوى صغيرة وتافهة حول جواز مصافحة النساء للرجال، أو قيادة المرأة للسيارة، أو جواز الاستماع إلى الموسيقى والغناء، أو التهادى بالزهور، أو الاحتفال بأعياد ميلاد أولادنا، أو مؤاكلة المسيحى ومبادلته السلام، وغير هذا من الغثاء الذى طغى على سطح حياتنا وعقولنا ووجداننا. كما أن الرجل قد دخل إلى دار الإفتاء مفتيا للبلاد، وخرج منها موفور الكرامة طاهر الذيل، غير مغضوب عليه من الحكام أو من الناس. غير أن ما يدعو إلى القلق هو مسارعة الشيخ الجليل إلى إعلان عدم تخليه عن عضوية الحزب الوطنى ولجنة سياساته، وهو الأمر الذى يدعونا إلى مراجعته فيه بطرح بعض الأفكار، التى نرجو أن يتسع لها صدر فضيلته. يا سيدى الشيخ، إن الجامع الأزهر جامع قديم – كما تعلم - يزيد عمره على الألف عام، إذ بدئ فى إنشائه مع القاهرة فى نفس سنة الفتح الفاطمى للبلاد سنة 969م، ومن يومها فقد تقلبت عليه الدول والأسرات الحاكمة، فاطميين وأيوبيين ومماليك – بحرية وجراكسة برجية - وأتراكاً عثمانيين وفرنسيين وأسرة ملكية علوية وجمهوريات ثلاثاً، ولم تكن حياة الأزهر تحت تلك الدول رخاء كلها، بل عرف فيها ما عرفه الناس من أيام شدة وبؤس، وأيام عزة ومجد، عانى فيها ويلات الإغلاق وتحويل «الجمعة» إلى غيره من الجوامع، كجامع احمد بن طولون أو جامع الحاكم، كما عرف تعطيل الدراسة، وإلقاء المجاورين وأمتعتهم وكتبهم إلى قارعة الطريق، وعرف الفتن المذهبية الدينية وصراع الأحناف والشوافع، وعرف دخول الفرنساوية إلى صحنه بخيولهم، وتدنيسه ونهب مخطوطاته ونفائسه. المهم أنه قد خرج من تلك الفتن والإحن كبيرا شامخا وجليلا، حظى بثقة المسلمين جميعا فى أربعة أقطار الأرض، ويعلم الشيخ الجليل أن المسلمين فى إندونيسيا والفلبين يتسابقون إلى تقبيل ذيل ثوب وحمل نعلى الشيخ الأزهرى، كما يحظى الأزهر بتلك المكانة السامية فى نفوس المسلمين من العرب والمصريين على اختلاف قناعاتهم وانتماءاتهم السياسية، فهل يتسق هذا التاريخ التليد وتلك المكانة السامية مع انتماء حزبى ضيق. ولقد جرى العرف على أن تدرس فى الأزهر المذاهب السنية الأربعة – الشافعى والمالكى والحنفى والحنبلى – ولكل مذهب منها شيخ كبير يرجع إليه فيما يخص طلاب العلم التابعين للمذهب، فإذا ما أصبح أحدهم شيخا للأزهر – وغالبا ما كان شيخ الأزهر شافعى المذهب – فإن غالب الطلاب والأساتذة ينادونه ب«الشيخ الرئيس» أو «شيخ الإسلام»، إذ إنه من المفروض أن يتسامى على التمذهب، رعاية لبقية المذاهب أو لكى يساوى بين الناس على اختلاف مذاهبهم فى وجهه. ولعل الشيخ الجليل يعلم أن الدكتور مصطفى باشا عبدالرازق (1888 – 1947 ) عندما تولى مشيخة الأزهر سنة 1945، آثر أن يتخلى عن علاقاته بأقطاب حزب الأحرار الدستوريين – وهو من مؤسسيه – وعن لقب دكتور وعن الباشوية جميعا، إذ كان – رحمه الله – يعتقد أن مكانة شيخ الإسلام ولقبه يتعارضان مع بعضها، فضلا عن أنهما يجبانها جميعا. وإذا كان وكلاء النيابة والقضاة بشراً من البشر، لهم مثل ما للبشر من حقوق ورغبات، فإن الأعراف قد فرضت عليهم ما لا يفرض على عامة الناس، فلا تجيز لهم الجلوس على المقاهى العامة، ولا البيع والشراء إلا بضوابط محددة، أفلا تعتقد يا شيخ الإسلام أن كرامة منصبك تفرض عليك بعض القيود مما لا يفرض على آحاد الناس. وإذا كانت وظائف القضاء والشرطة والجيش تتضمن القضاء بين الخصوم من الناس على اختلاف انتماءاتهم وفق قواعد العدل والإنصاف المجردة والنزيهة، وحماية مصالح الناس جميعا، والدفاع عن الناس كلهم، مما يفرض على القائمين بتلك الوظائف التخلى عن كل انتماء سياسى وحزبى، لتنزيه تلك الوظائف العامة وتنزيه القائمين عليها من اتهامات المحاباة والتحيز والغرض.. ومن هنا ألا تعتقد فضيلتك أن وظيفتك العامة والسامية تلك فيها لون من ألوان الحكم بين الناس، والإفتاء فى أمور الوطن، مسلميه وأقباطه، ورعاية المصالح العامة للناس جميعا مما يجبرك عن التخلى عن انتمائك الحزبى الضيق هذا، تنزيها لفضيلتك ولجلال المنصب الذى قدر لك، من اتهامات المحاباة والتحيز والغرض أيضا. وإذا كنت فضيلتك تثق فى صلابتك فى الحق، وقوة عزيمتك، وأنك لن تخشى فى الله لومة لائم، ولن تراعى إلا وجه الله الحق فى آرائك وفقهك، وأنك سوف تصمد فى وجه أى إملاءات أو ضغوط حزبية وسياسية فمن لنا بإقناع الجمهور من عامة المسلمين – وأنا منهم - بأنك لن تصدر فى فقهك هذا من إملاء المتنفذين والسياسيين من المسؤولين فى الحزب والحكومة، وتعلم فضيلتك أن سابقك المغفور له المرحوم الدكتور محمد سيد طنطاوى قد لعب دورا بارزا فى سبيل إظهار وجه الإسلام السمح وإرساء المبادئ التى تؤكد عدم تعارض الإسلام مع مقتضيات العصر ونظمه وحضارته، ومع ذلك فقد دخل عشرات المعارك، واتهم بممالأته للنظام وعمالته له فى آرائه فى الختان وأرباح البنوك والنقاب وغيرها، فلماذا لا تنزه شخصك ومنصبك وفقهك، وتبتعد بها عن مواطن التهم والشبهات، حتى ولو كانت شبهات مرسلة بلا بينة ولا دليل. وتعلم يا صاحب الفضيلة أن حزبك هذا الوطنى متهم فى سياساته بالكثير من الاتهامات، ومنها تمديد العمل بقانون الطوارئ وإجراء تعديلات دستورية رفضها واتهمها جل فقهاء الدستور المحترمين، ومنها سلق العديد من القوانين، كقوانين الضرائب العقارية، والتأمينات الاجتماعية والصحية وغيرها، ومتهم أيضا بتزوير الانتخابات فى أكثر من موقع – وهذه التهمة بالذات مثبتة بأحكام قضائية من محكمة النقض أعلى محاكم البلاد – ومتهم بالتواطؤ مع الحكومة للتنكيل بالخصوم السياسيين، ورفع الحصانة عن النواب منهم. هذا كله فضلا عن أن هناك من بين أعضائه من هو قابع فى السجون فى انتظار حكم المحكمة، فى اتفاق جنائى بقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم، وآخر مسجون بتهمة تهريب مئات التليفونات المحمولة، وثالث بتهمة الاتجار فى أكياس الدم الملوثة، ورابع هارب من أحكام قضائية بالسجن بتهمة الإهمال الذى تسبب فى موت أكثر من ألف من فقراء المصريين، فى حادثة غرق العبارة الشهيرة، ومن بينهم من حاز بجدارة لقب نائب النقوط، والنائب البلطجى، ونائب المخدرات، والنائب «الصايع»، ونواب القروض والمتاجرة بأذونات العلاج على نفقة الدولة أو المتاجرة بتأشيرات الحج والعمرة. وبعد، ألا تعلم يا صاحب الفضيلة أن الأحزاب تدار من داخلها – أو المفروض ذلك – وفق قواعد الديمقراطية التى تجبر الأقلية على النزول على إرادة الأغلبية، وتبنى قرار تلك الأغلبية والدفاع عنه.. ذلك القرار الذى قد يكون متناقضا مع قناعات أحد أفراد تلك الأقلية، فيا أيها الشيخ الجليل ما أنت وذاك؟ ولماذا تعرض فقه الإسلام لما لا يطيقه من الحيل والألاعيب؟ يا فضيلة الشيخ الجليل، دع الحزب الوطنى لصراعاته وتوازناته وصفقاته السياسية، ونزه منصبك الكبير، وعُد فالعودة إلى الحق خير، والحق أحق أن يُتبع. [email protected]