فى تسعينيات القرن الماضى، كانت جريدة «العربي» الناصرى، تحت رئاسة تحرير الأستاذ عبد الله السناوى، تُقدم صحافة معارضة وطنية شجاعة ورصينة، كما كانت تضم نخبة من كُتاب مقالات الرأى الذين قدموا للقارئ زادًا معرفيًا وسياسيًا ثريًا. أحد هؤلاء الكتاب هو الراحل السفير الدكتور حسين أحمد أمين، الذى كتب على صفحات الجريدة فى منتصف التسعينيات مقالًا شجاعًا عن حقيقة ودوافع «المثقف الفهلوى»، قرأته وأنا طالب فى مرحلة الليسانس، وما زلت أحتفظ به إلى اليوم بين أوراقى الخاصة؛ لأنه كان كاشفًا لحقائق كثيرة عن تحولات النخبة المصرية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى بصفة عامة، وفى زمن الرئيس مبارك بصفة خاصة. ولأنه تكلم عن مفهوم جديد للمثقف يختلف عن المفاهيم التى قرأتها فى كتاب الراحل إدوارد سعيد «صور المثقف»، مثل مفهوم «المثقف العضوى» عند أنطونيو جرامشى، و«المثقف الحقيقى/ النبى» عند لوسيان بندا، و«المثقف الملتزم» عند جان بول سارتر. فى هذا المقال، تحدث الدكتور حسين أحمد أمين عن تحولات النخبة المصرية من المثقفين والسياسيين، وكيف خلع بعضهم من رجال كل العصور، قناعاتهم ومبادئهم وانحيازاتهم القديمة ببساطة شديدة، بهدف نيل رضا أصحاب الحظوة والنفوذ والثروة الجدد فى الداخل والخارج، ومن أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية على حساب تاريخهم الشخصى ومصلحة الوطن والحقيقة والأمانة العلمية والمهنية. وأشار الدكتور حسين أحمد أمين فى المقال إلى نقطة بالغة الأهمية فى الدلالة على خطيئة عصر الرئيس الأسبق مبارك؛ عندما ذكر أن عصر الرئيس مبارك نجح نجاحًا منقطع النظير فى تعميم الفساد وآليات الإفساد فى عموم البلاد، كما نجح فى شغل كل إنسان مصرى مهما كان علمه أو مهنته أو منصبه بمصالحه الشخصية والأسرية وإبعاده عن الاهتمام بهموم الوطن والشأن العام، بحيث أصبح لسان حال ومقال الجميع فى عصره: «أنا ومن بعدى الطوفان». كما نجح أيضًا نجاحًا كبيرًا فى مسخ الهوية والشخصية المصرية، وتقزيم دور مصر ونخبتها وقوتها الناعمة، وتشويه القدوة والمَثل الأعلى فى المجتمع، ودعم وتصعيد نموذج «المثقف الفهلوى» على حساب نموذج «المثقف الحقيقى الوطنى الملتزم». والمفارقة الجديرة بالتأمل والاعتبار بعد مرور كل هذه السنوات على كتابة مقال الراحل الدكتور حسين أحمد أمين، أن سياسة الرئيس مبارك فى إفساد النخبة المصرية، والاعتماد على نموذج «المثقف الفهلوى» رجل كل العصور، كانت هى نقطة الضعف الجوهرية التى فتحت الباب لسقوط حكمه، بعد هروب نخبته ورجال حكمه من سفينة نظامه مع بوادر الثورة عليه. وقد رصد هذه الأمر الأستاذ عبداللطيف المناوى فى كتابه المهم «الأيام الأخيرة لنظام مبارك»، عندما ذكر أنه اكتشف بعد توليه مسؤولية رئاسة قطاع الأخبار بالتليفزيون المصرى أن نظام الرئيس مبارك كان يفتقد فى الواقع مَن يؤمن به بصدق ويدافع عنه بشجاعة، وقد تأكد له هذا الاستنتاج مع مرور الأيام فى معارك متعددة ومواجهات مختلفة على مدار سنوات ما قبل ثورة يناير وبعدها؛ حيث كان رجال النظام يختفون عندما تكون هناك مواجهة أو أزمة حقيقية تواجه النظام؛ بحيث لا يستطيع من موقعه فى قطاع الأخبار إيجاد من يرضى من رجال النظام ونخبته المختلفة الدفاع عن قرار أو اتجاه معين للدولة عبر وسائل الإعلام. وفصل المقال؛ إن إعادة بناء النخبة الوطنية الحقيقية فى بلادنا صارت اليوم قضية أمن قومى؛ لأن التاريخ يُعلمنا أن النخبة الوطنية هى ضمير أمتها ووطنها وشعبها، وهى حاملة لواء نهضة وتقدم بلادها، وأن أبناءها المخلصين هم أول المدافعين بشجاعة وصدق وتجرُّد عن مصالح وثوابت ومؤسسات الوطن والدولة فى لحظات الخطر والاستهداف. كما يُعلِّمنا التاريخ أن الخطأ الكبير الذى يرتكبه أى نظام حكم فى حق نفسه وأمنه واستمراره، وفى حق حاضر ومستقبل واستقرار الدولة وشعبها، هو خطأ صناعة وإبراز نخبة سياسية وتشريعية وإعلامية غير مرتبطة فكريًا وعضويًا بالدولة وتاريخها وميراثها وثقافتها ومؤسساتها الوطنية وثوابت أمنها القومى ومصالح شعبها؛ لأن هذه النخبة لن تفكر فى لحظات الأزمات والاستهداف المختلفة إلا فى الحفاظ على مصالحها ومكتسباتها، والقفز من سفينة هذا النظام قبل غرقه. وسوف يكون لسان حالها ومقالها وهى تقفز: «إن خرب بيت أبوك.. الحق خُدلك منه قالب»، وهو القول الذى لا أظن أبدًا أن صاحبه كان حقًا من صلب أبيه.