كتاب مرآة الإسلام هو أحد أشهر الأعمال والمؤلفات التى صدرت للأديب والمفكر الدكتور طه حسين. حتى إن البعض عده أحد أفضل كتاباته وأجملها لغويًا، وقد لاقى ترحابًا عظيما بين جموع المثقفين حتى يومنا هذا. يتناول دكتور طه حسين حياة العرب منذ أواسط القرن السادس للميلاد، حيث مثلوا أمة متخلفة قياسًا إلى الروم والفرس اللتين مثلتا قوتين عظميين تسلطتا على العالم فى ذلك الوقت، وقبل أن ترتقى أمة العرب مع ظهور الإسلام. من ثم فإن الكتاب يقدم رؤية شاملة لوضع الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، فيعرض للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية والأدبية التى كانت سائدة وأحاطت بتلك المنطقة. فى رحلة شائقة لحياة النبى وأصحابه يمزج عميد الأدب العربى الحكايات بالوقائع بالأحداث التاريخية فى أسلوب سردى ممتع لا يخلو من التحليل العلمى والقراءة المادية للوجود الاجتماعى والفكرى والأدبى لبيئة الإسلام وما جاورها، لتدرك شعوب الأمة الإسلامية تراثها بالنظر العقلى والفهم المستنير متجاوزين الخرافات والأساطير وصولا إلى الإيمان الثابت. ففى هذا الكتاب يحاول طه حسين استعراض شكل الحياة فى الجزيرة العربية قبل مجىء الإسلام. فحدثنا عن الديانات التى كانت منتشرة فى ذلك الوقت وما هى القوى الكبرى التى كانت مسيطرة، وكيف كانت الحالة الفكرية والمجتمعية فى ذلك الزمان. يشير الدكتور طه إلى أنه فى أواسط القرن السادس للمسيح كانت الأمة العربية متخلفة أشد التخلف بالقياس إلى الأمم التى كانت تجاورها، لها فى الجنوب بقايا حضارة كانت قد درست، ولم يكن أهل الجنوب أنفسهم يعلمون من أمرها إلا أخلاطا هى إلى الأساطير أقرب منها إلى الحق، فكانوا يذكرون حمير وملوكها من التبابعة، وكانوا يذكرون سبأ، وكانوا يذكرون الأذواء، بل كان الأذواء ما يزالون يحتفظون بشىء من سلطانهم يعيشون فى حصونهم ويتسلطون على أهلها وعلى من حولها فى حواضر الجنوب وبواديه. ويضيف أنه كانت هناك مع ذلك قبائل متبدية لا تخضع لأحد منهم، وإنما تعيش عيشة الأعراب فى بواديهم. وكانت فى الجنوب مدن كبار أو صغار فيها بقية من حضارة، ولكنها لا تغنى عن أصحابها شيئًا. ولم يكن الجنوب العربى خالصًا للعرب، وإنما كان الحبشة يتسلطون على جزء عظيم منه، وعجز العرب عن إجلاء هؤلاء المحتلين فاستعانوا بالفرس على ذلك وأعانهم الفرس، ولكن لا ليردوا عليهم سلطانهم ولا ليخلصوا لهم وطنهم، بل ليقوموا مقام الحبشة الذين أجلوهم. ويلفت إلى أنه مهما يكن من شيء فمن الإسراف فى الخطأ أن نظن أن أهل جنوب الجزيرة العربية فى ذلك الوقت قد كانوا على شىء ذى خطر من الحضارة بمعناها الصحيح. ولكنهم على كل حال كانوا يحيون حياةً خيرًا من الحياة التى كان يحياها سائر الأمة العربية فى قلب الجزيرة وشمالها، فقد كانت لهم بقية من زراعة وكانت تصل إليهم تجارة الهند وأشياء من تجارة الحبشة والفرس، وكان أهل الشمال كما سنرى يُلِمُّونَ بهم كل عام فينقلون ما عندهم من التجارة لينشروها فى العالم المتحضر. وكان هذا كله يتيح لهم شيئًا من ثراء، فلم يكن عيشهم قاسيًا ولا غليظا كعيش غيرهم من العرب. ويشير إلى أنهم مما ورثوا من بقايا حضارتهم الدارسة وما وصل إليهم من الديانتين السماويتين وما أُتيح لهم من هذا الثراء المتواضع؛ كان كل ذلك قد جعلهم أرق قلوبا وأصفى طباعًا من أهل الشمال. ولكنهم على هذا كله كانوا متخلفين بالقياس إلى الأمم المتحضرة، فكانت كثرتهم الكثيرة أمية وكان أقلهم يكتبون ويقرؤون، وكان هذا كله يستتبع كثيرًا من جفاء الأخلاق وغلظ القلوب، بحيث لم تكن حياة أهل القرى تمتاز من حياة أهل البادية إلا بشىء من ثراء كانت تستأثر به قلة من الأغنياء الذين يتسلطون على من يعيش معهم من الناس تسلطاً لا يخلو من عسف وظلم وأثرة واستعلاء. وكانت اليهودية قد استقرت فى شمال الحجاز لأسباب لا نحققها ولا يبينها التاريخ؛ فإلى جانب الأوس والخزرج فى يثرب كانت تعيش قبائل يهودية، وفى خيبر كذلك. وهذه القبائل اليهودية كانت تحيا نفس الحياة التى كان العرب يحيونها من حولها، قليل من حضارة وكثير من بداوة، مضيفا أن اليهود فى الحجاز كان أكثرهم أميين كالعرب، لا يقرأ ولا يكتب منهم إلا أحبارهم. وكان هؤلاء الأحبار أقرب إلى الجهل منهم إلى العلم، وقليل منهم من كان يُحسن العلم بدينه فكيف بسائر اليهود ويستعرض لنا الكاتب ما أحدثه دخول الإسلام من تغيرات فى الأفراد والمجتمعات. ولا يغفل الكاتب أن يحدثنا عن القرآن وإعجازه، وكيف غير قلوب المسلمين والسنة كمصدر أساسى ومهم للتشريع. وقام طه حسين فى هذا الكتاب بتسليط الضوء على ما واجهه المجتمع المسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما حدث من انقسامات ونزاعات للعديد من الأسباب السياسية والنزعات الفكرية التى أدت إلى ظهور العديد من الفرق والفئات التى تسببت بعد ذلك فى العديد من الأحداث الفارقة. وكعادة عميد الأدب العربى فإنه يجذبك بلغته الراقية وأسلوبه الشيق الممتع وتسلسل الأحداث الرائع الذى يجعل الملل صعبًا على القارئ. ولكن الأمتع فى كتاب مرآة الإسلام هو ذلك الأسلوب الروائى، الذى اتبعه فى السرد بطريقة تجعل القارئ أكثر تأثرًا واندماجًا مع أحداث الكتاب. ويتطرق «طه حسين» إلى المراحل التى مرت بها الدعوة الجديدة منذ بزوغها حتى استطاع النبى بناء دولته بالمدينة ونعِم المسلمون بالاستقرار فى عهده وعهد خليفتيه «أبى بكر» و«عمر». غير أن الأمور ساءت كثيرًا بعد ذلك؛ فكانت فتنة مقتل «عثمان» كالشرارة التى أحرقت الأخضر واليابس. وما يميز «طه حسين» أنه لا يكتفى بالعرض فقط، وإنما يحلل الأحداث الكبرى ولا سيما الفتن والثورات، بحيث يخلع عليها أسبابًا تبدو منطقية من وجهة نظره؛ فعزا ثورتى «الزنج» و«القرامطة»— اللتين كادتا أن تعصفا بالدولة— لأسباب اجتماعية واقتصادية خطيرة. ويقول عميد الأدب العربى فى كتابه: «ولا أكاد أشك فى أن وثنية أهل مكة لم تكن صادقةً ولا خالصةً، وإنما كانوا يتَّجرون بالدين كما كانوا يتَّجرون بالعروض التى كانوا يجمعونها من الجنوب ومن أنحاء الجزيرة العربية لينقلوها إلى أقطار أخرى من الأرض كانت محتاجةً إليها. فهم كانوا أذكى قلوبًا وأنفذ بصيرةً وأكثر ممارسةً لشئون الحياة فى قريتهم تلك وفى غيرها من المواطن التى كانوا يختلفون إليها بتجارتهم. وهم كانوا بحكم ممارستهم للتجارة يتَّصلون بأمم متحضِّرة فى الشام ومصر وفى العراق وبلاد الفرس أيضًا. وكانوا يرون مذاهب هذه الأمم فى الحياة ومذاهبهم فى الدين أيضًا؛ فلم يكن من الممكن أن يؤمنوا لهذه السخافات التى كان يُؤمن بها العرب الوثنيون».