زيارة رئيس وزراء إسرائيل الأخيرة للولايات المتحدة، خلال الأسبوع الماضى، عكست كل تناقضات علاقة البلدان ببعضهما. نتنياهو يتكلم الإنجليزية باللهجة الأمريكية مثل الأمريكان أنفسهم، بل من لا يعرف، أنه رئيس وزراء إسرائيل قد يحسبه أمريكيا خالصا. والسبب فى ذلك هو أن رئيس وزراء إسرائيل قد تربى فى الولاياتالمتحدة، لأن والده كان يعمل هناك.. ذهب بنزيون نتنياهو، المؤرخ للتاريخ الإسبانى، للولايات المتحدة لأن أفكاره السياسية كانت متطرفة لدرجة أنه لم تقبله أى من جامعات إسرائيل. ونتنياهو الوالد، الذى بلغ عامه المائه هذا العام، قد قال من قبل (فى جريدة هاآرتس فى 1998 مثلا) إنه يعتبر حرب إسرائيل مع العرب حرباً طويلة الأمد، بل شبه أبدية- لأنها مثل حرب الملوك الكاثوليك ضد المسلمين خلال القرون الوسطى، والتى استمرت لمدة قرون. فهو يعتبر أن المسلمين قد احتلوا «أرض إسرائيل» مثلما احتلوا أرض إسبانيا، ولذا يكون الصراع أبدياً حتى الموت. فنتنياهو الأب يعتبر الصراع العربى الإسرائيلى صراعا قوميا دينيا، وأعتقد أن فى أعماق فكر نتنياهو الابن هناك نظرة مماثلة. وهذه الفكرة نابعة إلى حد كبير من نظرتهم ل«الأمة اليهودية»، فهى من وجهة نظرهم أمة أزلية تم تجميعها فى إسرائيل من شتات الناس عبر الزمان والمكان، وهى بذلك أمة مثل بقية الأمم، كالأمة الإسبانية مثلا. لكن فى الحقيقة هل توجد بالضرورة، خارج السياق السياسى المعترف به عمليا حتى أمة مثل إسبانيا؟ المثال الأمريكى يشير لعكس ذلك. فالولاياتالمتحدة ليست مبنية على فكرة أمة أزلية قديمة، يتم إعادة بعثها من ضباب الماضى، إنما على فكرة بناء مجتمع تعددى مفتوح، مجتمع يتقبل الاختلاف ويحتفى به، والدولة فيه تكون لكل مواطنيها، فرغم مشكلة العبودية، التى كانت موجودة حين نشأت الدولة الأمريكية، فإن إقرار الدستور بأن «الناس مخلوقون سواسية» شكل حجر أساس الحركة التحررية فيما بعد. وأمريكا بلد مهاجرين، ورغم أن تلك الهجرة لم تكن دائما مبنية على أساس تكافؤ الفرص- فلم تسمح مثلا بعدد كبير من اليهود للوصول إلى الولاياتالمتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، حين كانت المحرقة النازية تبتعلهم- فإنها فى النهاية لم تكن مبنية على فكرة الهجرة الدينية أو القومية كما هى الحال فى إسرائيل.. بالإضافة إلى أن أى شخص، وذلك منذ إنشاء الدولة، يولد فى الولاياتالمتحدة تحتسب الجنسية فوريا، وذلك يجسد اختلافاً آخر عميقاً مع دولة إسرائيل، التى ترحب بالمهاجر «الفئوى» وفى نفس الوقت ترفض عودة من ولد فيها خارج الفئة المميزة. ورغم ما يتردد أحيانا فى أوساط أوروبية، وعربية أيضا، عن تهافت الولاياتالمتحدة، فهى أمثل مثال لدولة مبنية على الفكر والثقافة، فهى تكاد تكون الوحيدة المبنية على أساس تصورى رصين، يرجع لتلك الحقبة الخلاقة التى تجمع خلالها مؤسسيها فى مدينة فيلادلفيا وناقشوا أفكار فلاسفة مثل: جون لوك وفولتير ومونتسكيو وكانط لمدة ممتدة. والنتيجة كانت الدستور الأمريكى. باراك أوباما يعتبر تجسيدا عمليا لهذا التراث، وعندما يواجه نتنياهو فهو يواجه نقيض التراث الذى جاء به والذى يعمل من أجله. لأن نتنياهو، رغم لهجته الأمريكية، لا يمثل هذا التراث.. إنما، على العكس، هو نتاج عن طريق استخدام والده- كما يفعل الكثير من الناس، ومنهم المتطرفون من المسلمين- للمناخ التعددى الأمريكى، حتى يعمل وينشر أفكاره المتطرفة.. مع ذلك، عند مشاهدة نتنياهو على «سى. إن. إن» مثلا، يمكن أن يتواصل معه معظم الأمريكيين، لأنه فى تلك الظروف يستخدم لغة خطابية مفهومة لديهم ويتكلم بلهجة معهودة ومعروفة. لقد شاهدته يتحدث طويلا مع مذيع «سى. إن. إن» الشهير لارى كينج، وخلال هذا البرنامج أظهر رئيس وزراء إسرائيل نفسه كحمامة سلام، فإسرائيل تحت قيادته تريد فقط البقاء فى حالة سلام، وتريد الحديث مع كل من يَقبلها ولا يريد تدميرها- حتى رئيس إيران، السيد أحمدى نجاد مرحبا به إذا اعترف بإسرائيل وكف عن إنكاره الدائم للمحرقة النازية لليهود. أى أن يد إسرائيل، تحت حكم نتنياهو، ممدودة للسلام، لكنها لا تجد من يقابلها.. هذا الكلام قد يبدو مضحكا لمعظم العرب والمصريين، لكنه مقنع للكثير من الأمريكان، لأنه، مرة أخرى، يستخدم لغتهم الفكرية واللفظية، رغم بعد ما يتبناه فعليا من فكر مناقض للأفكار المؤسسة لبلادهم.. ولأن معظم سكان أمريكا لا يعرفون تاريخ نتنياهو، أو تفاصيل تاريخ صراع الشرق الأوسط جيدا، ولا يرون أو يسمعون وجهة نظر مخالفة بوضوح، بل فقط لهجة أحمدى نجاد المريبة، والمدمرة والمنفرة للذوق، وكلام العرب النمطى الفارغ من أى مضمون. ربما كان أوباما قد أتى من عالم مختلف عن الذى سكنه نتنياهو، ربما أيضا أنه يرى العالم بطريقة متناقضة جذريا مع تلك التى يتبناها رئيس الوزراء الإسرائيلى، لكنه من الضرورى أن يخضع لرأى عام لا يرى إلا لهجة نتنياهو التى تبدو مقنعة فى غياب البديل القوى. وسنرى ماذا سيحدت فى سياق هذا التفاعل المدهش.