يوافق اليوم الذكرى الثالثة والأربعين لحرب يونيو 67، وأول ما يمكن ملاحظته أن تداعيات تلك الحرب ما زالت تحكم إلى حد كبير نظرة كل طرف للصراع الدائر بين العرب وإسرائيل، رغم مرور عقود الزمن.. وربما أهم الدلائل على ذلك يمكن استنتاجها مباشرة من تجربة «أسطول الحرية» الأخيرة. فعلى عكس ما يعتقده الكثير فإن المذبحة التى ارتكبها الجنود الإسرائيليون خلال عملية الإنزال الأخيرة لم تكن نتيجة تدبير مسبق، إنما عبرت عن خطأ الاستهانة بعزيمة الآخر. وهذا الخطأ ارتكبته إسرائيل تكراريا، بدءاً بالغرور الذى ساد هناك قبل حرب أكتوبر. ولم تستوعب إسرائيل الدرس كاملاً، فدخلت تكرارياً فيما بعد فى مغامرات غير محسوبة، فى لبنان وفى غزة، ربما كانت ناجحة إلى حد ما، من الناحية العسكرية البحتة، لكنها كانت كارثية بالنسبة لها من الناحية السياسية.. ومع ذلك، دام التشبث بنفس التفكير المستند على أن نجاح تقنيات معينة فى إدارة الصراع فى الماضى ستنجح فى ظروف أخرى - أى التصور الميثولوجى المعتمد على إعادة استخدام القوة المفرطة التى نجحت فى 67. هذه نظرة بدائية تعتمد على فكرة أنه يمكن تكرار إنجازات الماضى بإعادة الطقوس نفسها، بصرف النظر عن الظروف الموضوعية لما يحدث فى حيز الزمان والمكان، حتى حالة ثبوت فشل هذه الطقوس فى مرات عديدة فيما بعد: فإسرائيل تستخدم القوة المفرطة ليس لأسباب موضوعية، إنما لما تسميه الأسباب الوجودية، هكذا يمتزج الغرور والعنف بالإحساس بالضعف والعزلة. لذلك هناك حالياً إجماع شبه تام فى إسرائيل على أن العملية البحرية الأخيرة لم تكن على المستوى المتوقع من الجيش الذى قام بحرب 67 أو عملية «عنتبى» بعدها بتسع سنوات، لكنه فى الوقت نفسه لا يوجد يقين مشابه بالأسباب الأساسية التى أدت لذلك الفشل الذريع. ولأن هذا الفشل أدى لرد فعل عالمى غير معتاد تجاه إسرائيل، فإن هناك إحساساً لدى قطاعات واسعة فى تلك الدولة بأن المشكلة فى جوهرها إعلامية، وتتجسد فى عدم «فهم» العالم لموقف إسرائيل. وتندمج هذه النظرة المنطوية على الذات مع عقد التاريخ اليهودى المرعب، الذى بدأت تتلاشى آثاره وفاعلية تأثيره لدى الغرب، فاستخدام القوة المفرطة نابع فى الوقت نفسه عن غرور وعن ضعف، أساسه الإحساس الدائم بأن الماضى المأساوى لا تمحوه إلا ثورة القوة العسكرية الباطشة، التى يعتقد أنها تمحو ما اعتبره «بن جوريون» «الهوان التاريخى للشعب اليهودى».. ويبدو أن حرب 67، بدلاً من أن تلغى هذا الإحساس، كرست آلية للانتقام الأزلى، التى قد سئم منها العالم أخيراً. يبدو أن العالم «زهق» من عُقد إسرائيل النفسية. لكن للأسف فإن إحساساً مماثلاً، يمزج الغرور بالهوان والذل، موجود لدى العرب أيضاً، رغم إنجازات الجيش المصرى فى حرب أكتوبر وفشل إسرائيل المتكرر فى مواجهات عديدة فيما بعد، وفشلها فى إخضاع الشعب الفلسطينى أو استيعاب باقى أراضيه رغم الكم الهائل من الإمكانيات المتاحة لها عبر أربعة عقود.. فلماذا مثلاً هناك الآن إحساس عام بالمهانة فى مصر، رغم أن السفينة التى تمت مهاجمتها من قبل القوات الإسرائيلية كانت رافعة العلم التركى؟ ورغم أن المصريين المتواجدين على متن القافلة قد تم الإفراج عنهم فى زمن يعتبر قياسياً فى مثل هذه الظروف، دون أن يتعرضوا لأى أذى؟ لماذا نطالب بالردع العربى، فى حين أن تركيا، وهى عضو فى حلف الناتو ولها تعاون اقتصادى وعسكرى واسع النطاق مع إسرائيل، لديها أوراق ضغط كثيرة من الممكن أن تلعبها فى سياق الثأر مما فعلت إسرائيل بالمركب التركى؟ أليس هو الإحساس بالعجز الدائم النابع عن تداعيات حرب يونيو 67 - وأيضاً، فإنه هناك توازيا مع حالة إسرائيل، عن تداعيات الماضى البعيد المرير، حيث كانت الدول العربية مستعمرة ومهانة، والربط الذهنى الذى يحدث بين هذا التاريخ المغبر وأحداث الحاضر. إن الأحداث الأخيرة تشير إلى أن صبر العالم مع «عقد» إسرائيل، المتجسدة فى صراعها الدائم مع الماضى ونظرتها الأسطورية للحاضر، والمؤدية للفشل العملى المتكرر، كاد ينصرف. لذا، إذا أردنا استغلال ذلك فى سبيل إرساء السلام فى المنطقة، فإن علينا الظهور فى صورة أفضل، صورة تنبذ نفس النزعات التى تنفر العالم من إسرائيل.. علينا التخلص من نظرتنا المبنية هى الأخرى على أهوال وإهانات الماضى، التى لا تمكننا من التعامل مع واقع عالم متغير قد بدأ المضى قدما فى اتجاهات مختلفة، تتجه نحو التعددية والكونية ونبذ النزعات القبائلية.