مى عزام تكتب: قوة الشباب: لا أحد صغير جدًا على إحداث فرق

(1)
فى سبتمبر الماضى، استمعت لكلمة جريتا تونبرج، «16 سنة»، الناشطة السويدية فى مجال محاربة التغير المناخى، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان عنوانها: «كيف تجرؤون؟»، حيث اتهمت زعماء العالم بأنهم يسرقون حياة وأحلام جيلها بسبب وعودهم الكاذبة وعدم جديتهم فى الحفاظ على كوكب الأرض مما يتعرض له من كوارث مناخية، كانت كلمة «جريتا» جريئة وخشنة، استقبلت أداءها ببعض التحفظ، بدا لى أداء مسرحيًا بعيدًا عن العفوية، ولعل ذلك يعود إلى توجيه والديها، فوالدتها مغنية أوبرا ووالدها ممثل، رعايتهما لها ودعمها من أسباب تطور شخصيتها وثقتها فى ذاتها، فمن طفلة تعانى متلازمة «اسبرجر» إلى أيقونة عالمية فى مجال المناخ، تختارها مجلة التايم الأمريكية لتكون شخصية العام ممثلة لقوة الشباب، وهى أصغر مَن حاز هذا اللقب سنًا منذ بدأت مجلة التايم هذا التقليد عام 1927.
(2)
فى مايو من هذا العام، أصدرت «جريتا»، الشابة الصغيرة، ذات الجدائل الطويلة، كتابًا بعنوان: «لا أحد صغير جدًا على إحداث فرق»
No One Is Too Small to Make a Difference
وهو تجميع لعدد من الخطب التى كتبتها وألقتها حول ظاهرة الاحتباس الحرارى وتغير المناخ، فى مناسبات مختلفة فى بلدها وخارجه. «جريتا» دليل حى على صحة العنوان المختار، فلقد بدأت التظاهر وحيدة من أجل المناخ فى صيف 2018، حيث كانت تترك مدرستها وتذهب كل يوم جمعة لتجلس أمام البرلمان السويدى احتجاجًا على عدم وفاء حكومة بلادها بالتزاماتها تجاه اتفاقية باريس للمناخ، والتى تهدف إلى خفض انبعاثات ثانى أكسيد الكربون، وتوسعت حركتها «فرايديز فور فيوتشر- أيام الجمعة من أجل المستقبل» لتشمل الآف الناشطين من كل أنحاء العالم.
تجربة «جريتا» الفريدة لم تبدأ عام 2018، لكن قبل ذلك بسنوات، هذه التجربة كانت موضوع كتاب «مشاهد من القلب»، الذى صدر قبل أيام قليلة من تظاهراتها الفردية فى 2018، حيث قامت أمها «مالينا إرمان» بدور الراوية، وينقسم الكتاب إلى مشاهد، كل منها يعطى نظرة على هذه الأسرة وكيف تعاملت مع أزماتها الشخصية عن طريق مواجهة أزمة أخرى أكبر، وهى الاهتمام بكوكبنا. الأم «مالينا إرمان» واحدة من أشهر مغنيات الأوبرا فى السويد، عاشت حياة مثيرة ومختلفة مع زوجها الممثل «سفانتى تونبرج»، كانا يسافران حول العالم بصحبة طفلتيهما، ولكن فى سن الثامنة أُصيبت «جريتا» باكتئاب حاد، وفقدت 10 كيلوجرامات من وزنها فى شهرين. انقلبت حياة «مالينا» و«سفانتى» رأسًا على عقب، تم تشخيص حالة «جريتا» بمتلازمة «اسبرجر» وأمراض أخرى. بعد فترة وجيزة بدأت ابنتهما الصغرى «بياتا» تعانى نفس الأعراض، وتم تشخيص إصابتها بمتلازمة «اسبرجر» والوسواس القهرى.. تغلبت الأسرة على المحنة وحوَّلتها إلى منحة.
(3)
مرض «جريتا» لم يمنع من الاهتمام بما هو أكبر من مشاكلها الشخصية، شاهدت فيلمًا وثائقيًا عن أزمة المناخ، وسألت نفسها: لماذا لا يتحدث أحد عن هذا؟ كيف يمكن للساسة والزعماء التحدث عن أى شىء آخر عندما يكون هذا هو الشىء الوحيد المهم؟ بدأت فى دراسة أزمة المناخ وكيف تم تقديمها فى وسائل الإعلام. غيّر والداها نمط حياتهما، وتَخَلّت الأم عن مهنتها لتكون سندًا لابنتها بعد اقتناعها بأهمية القضية، وشجعت ابنتها على تَبَنِّيها، كان ذلك أول علامة على إرادة «جريتا» القوية ومثابرتها، انتقلت من إقناع أسرتها إلى محاولة إقناع العالم بإجراء التغيير اليوم بدلًا من الغد.
(4)
«جريتا» محظوظة بأسرتها والبيئة التى ترعرعت فيها، لكنها فى النهاية عينة من شباب العالم، الغاضب من أداء حكوماته، هى مهتمة بتغير المناخ ومستقبل كوكب الأرض، فى بلاد أخرى يتحدث الشباب عن حقوق الإنسان والحريات ومكافحة الفقر والفساد والشفافية وتداول السلطة واحترام القانون، مطالب الشباب ليست واحدة، ولكن حلمهم واحد: حياة أفضل لهم وللعالم. قوة الشباب قادرة على إحداث تغيير فى بلادهم وأيضًا فى النظام العالمى، الذى يعانى أمراض الشيخوخة: التيبس والهشاشة والخرف. سيظل هناك زعماء يتحدون التغيير ويسخرون من أحلام الشباب ويصفونها حينًا بالرعونة وحينًا بالسذاجة، لكن لا تستهينوا برفّة الفراشة.
«لا أحد صغير جدًا على إحداث فرق»، الكل يمكنه أن يُحْدِث فرقًا لو آمن بما يقول، وحوَّله إلى فعل.