يذهب اليوم الناخب المصرى للإدلاء بصوته فى أول استفتاء مصيرى فى تاريخ البلاد. والحجة الأساسية التى يتبناها مَن يؤيد قبول التعديلات الدستورية المطروحة - أى الإدلاء ب«نعم» فى الاستفتاء - أن البديل هو المجهول.. هذه هى صيغة جديدة لحجة الحفاظ على «الاستقرار» التى طالما سمعناها من قِبَل نظام مبارك. وكما تساءلنا من قبل عن قيمة تلك الحجة ورصانتها، يجب أن نطرح نفس السؤال الآن، فقد اتضح من تجربة مصر الأخيرة تهافت دعوات الاستقرار غير المبنية على قاعدة صلبة ومقنعة ومنطقية.. أعتقد أن ذلك المنطق نفسه ينطبق على الفترة الحالية أيضا. الدستور الحالى، حتى بعد التعديل (وربما خاصة بعد التعديل) يحتوى على تناقضات فجة، ذلك لأن مضمونه الأساسى تم تفصيله لخدمة الحاكم الفرد، وفى نفس الوقت كان لزوم ال«علاقات العامة»، داخليا وخارجيا، ما يحتم أن يبدو الدستور الناتج عن تلك العملية كميثاق ديمقراطى ظاهرى. لم يمثل ذلك عقبة كبيرة فى ظل الحكم الديكتاتورى، لكنه قد يؤدى إلى أزمات عميقة فى ظل وضع ديمقراطى لا يتمتع خلاله الحاكم بحرية التحكم فى عملية انتخاب أعضاء البرلمان بمجلسيه. لقد لاحظ البعض تناقضات ثانوية نشبت فى الدستور المعدل، كتضارب المادة 77 مع المادة 190، فالأولى تحدد أربع سنوات لفترة حكم الرئيس، بينما تحدد الثانية مدة الرئاسة بست سنوات.. هذه ليست بشرى جيدة فى حد ذاتها، لكن أهميتها الأساسية كامنة فى إشارتها إلى أن عملية التعديل الأخيرة لم ينتج عنها نص خال من التناقضات الواضحة. أريد التركيز على إمكانية نشوب صراع بين السلطة التنفيذية - أى الرئيس والحكومة التى يعينها بمقتضى الدستور الحالى - والسلطة التشريعية، الممثلة فى البرلمان بمجلسيه، مما قد يؤدى لزعزعة الاستقرار. ففى سياق انتخابات ديمقراطية، لا يمكن استبعاد احتمال أن ينتمى الرئيس القادم لتيار مغاير تماما للميول السياسية والأيديولوجية التى تتبناها الكتلة الكبرى فى البرلمان، مما قد يؤدى لنشوب صراع بينهما على المفاهيم والاتجاهات الأساسية التى يجب أن تسود الفترة القادمة.. هذا الاحتمال وارد بالذات لأن الرئيس القادم من المرجح أن ينتمى للتيار المؤيد للدولة المدنية، وفى نفس الوقت لن تتاح الفرصة الزمنية الكافية للقوى الحزبية التى تدعم هذا التيار لترتيب أوراقها وتنظيم صفوفها.. ومن غير المستبعد تماما أيضا أن يسعى الرئيس القادم إلى استغلال الدستور الحالى لفرض إرادته على البرلمان والشعب. ماذا سيحدث مثلا إذا اعترض مجلس الشعب على الوزارة المكلفة من قِبل الرئيس؟ تقول المادة 133 إنه «إذا لم يوافق المجلس على هذا البرنامج بأغلبية أعضائه يقبل رئيس الجمهورية استقالة الوزارة، وإذا لم يوافق المجلس على برنامج الوزارة الجديدة، كان لرئيس الجمهورية أن يحل المجلس أو يقبل استقالة الوزارة»، لكن ماذا سيحدث إن لم يوافق المجلس على القرار الصادر بحله، وأراد فى المقابل بأغلبية كبيرة أن يتحدى الرئيس؟ والدستور الحالى يسرد له ذلك السبيل. المادة 85: «يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو بارتكاب جريمة جنائية بناء على اقتراح مقدم من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثى أعضاء المجلس، ويقف رئيس الجمهورية عن عمله بمجرد صدور قرار الاتهام».. من سيقوم بحل هذا النزاع بين الطرفين؟! المادة 136 تقول إنه «لا يجوز لرئيس الجمهورية إصدار قرار بحل مجلس الشعب إلا عند الضرورة»، لكنها لا تعرّف ما الظروف التى تحدد تلك ال«ضرورة» ومن يقرر وجودها من عدمه.. فمن سيحدد إذا كان قرار حل المجلس المنتخب ضرورة أم «خيانة» فى عصر الديمقراطية؟ وما قد يعقّد الأمور أن الرئيس سيترأس أداة «العنف الشرعى»، ومنها قوات الشرطة.. (المادة 184).. هل استخدامه لها سيعرضه لتحدى البرلمان بحجة ارتكابه «جريمة جنائية»، حتى فى حالة كون الخلاف بينهم سياسيا فى الأساس؟! هذه المعضلات نفسها قد تنشأ إذا اختلف الرئيس مع مجلس الشعب على تكوين اللجنة المؤسسة للدستور. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدستور الحالى يعطى الرئيس «حق إصدار القوانين أو الاعتراض عليها« (المادة 112). والقوانين تنبثق من الدستور، أى أن لديه سلطة تجريد أى دستور جديد من مضمونه وشل فاعليته حسب أهوائه، خصوصا أنه سيرأس مجلس رؤساء الهيئات القضائية العليا الذى يحدد دستورية القوانين (المادة 173). إن استمرار الدستور الحالى قد يؤدى إلى الفوضى، أو لخضوع الطرف الأضعف فى هذه المعادلة - وهو البرلمان - لمطالب الرئيس، فقد يتخلى نواب الشعب عن مطالب الشعب فى سبيل البقاء فى أماكنهم - أى عدم حل مجلسهم - لنعود بذلك لعصر تفشى المحسوبية والخضوع. لن تؤدى أى من هذه الاحتمالات لسيادة الاستقرار. الحل الأنسب فى ظل تفكك القوى السياسية وعلى خلفية التعديلات المحدودة التى طرأت على دستور ملىء بالتناقضات هو الانتخاب المباشر للجنة دستورية بعد مناقشة عامة واسعة النطاق تتطرق لتفاصيل المبادئ المرجو توافرها فى النظام الجديد، والتى يجب أن يتم على أساسها اختيار البرلمان والرئيس بعد معرفة الصلاحيات التى سيتمتعان بها.