فكرت طويلاً قبل كتابة هذا المقال خوفاً من أن يخوننى التعبير وأن يُفهم المقال خطأ ممن يريد ذلك، ولذا أرجو من هؤلاء التمعن فى قراءة المقال قبل إصدار حكمهم، حيث إننى لا أريد من خلاله الإقلال من شأن أحد أو مطلبه، كما أنى ضد الظلم الذى كانت تتكبده العمالة فى أى مكان مع ضرورة النظر فى التفاوض منذ الآن مع عدم توقف العمل حول المطالب المشروعة للعمالة، فهى عنصر أساسى فى معادلة الثورة، ودعونى أوضح، فإن ثورة الشباب ومؤيديها يرون أنه قد حان الوقت للمحاسبة ومحاربة الفساد، وإننى أتفق كل الاتفاق مع هؤلاء، ولكن هناك آخرون يرون أن الفرصة سانحة لتصفية الحسابات، وشتان ما بين المحاسبة وتصفية الحسابات، وأرى أن الذين ينتمون إلى المجموعة الثانية ويصرون على تسوية حساباتهم سوف يلحقون الضرر بأهداف الثورة السامية والجليلة، فالثورة قامت من أجل بناء مصر العدالة، مصر الديمقراطية، مصر الحرية، وهذا هو ما يجب أن نضعه نصب أعيننا الآن والعمل جميعاً من أجله دون كلل. فإن الاحتجاجات والاعتصامات اليومية الفئوية التى نشهدها - والتى هى لا شك محقة من قبل القائمين عليها - لا ترقى إلى مستوى المحاسبة بل هى مجرد تصفية حسابات قديمة بين العمال وأصحاب العمل أياً كان هؤلاء من بين رجال أعمال القطاع الخاص أو القطاع العام. بل وكلى أسف للقول بأن كثيراً من الاعتصامات والاحتجاجات مجرد تجمعات فوضوية يراها البعض - وقد لا يكونون فى ذلك مخطئين أو بعيدين عن الحقيقة - أنها مخططة ممن لا يريدون النجاح للثورة.. وإن كان لبعض هؤلاء مطالب مشروعة، فإنهم للأسف قد أخطأوا فى اختيار التوقيت بل وفهم الثورة، فإننى أقول لهؤلاء للأسف إن الثورة لم تقم لاستباحة الفوضى وتصفية حسابات كما أنه لا يحق لهم ركوب الموجة أو الظهور بمظهر المستغل للأوضاع. فإننا اليوم نمر بأزمة حقيقية نريد أن نعبرها سوياً وهو الأمر الذى يتطلب العمل من أجل الاستقرار واستتباب الأمن والنظام وليس العكس. وأننا اليوم فى مرحلة بناء دولة المؤسسات وسيادة القانون وهو ما يعتبر أكثر إلحاحاً من المطالبات الفئوية التى يتم إطلاقها ونفاجأ بها صباح كل يوم، فإن هذه الدولة التى نستهدف بناءها داخلياً كفيلة بأن تخلق الأطر الصحيحة والمنظمة والأجهزة المعنية التى تمكّن هؤلاء بالمطالبة والدفع فى حينه بحقوقهم المفقودة والمشروعة، فإن ما ننشده أولاً هو استقرار النظام الداخلى وبناء نظام ديمقراطى مستقر يساهم مستقبلاً فى طرح جميع المطالبات على مائدة النقاش الوطنى بشكل عقلانى ومتوازن وبعيد عن البلبلة، ويجب أن نعرف أن التوازن أمر مفروغ منه، ويقوم على الحقوق من ناحية، وعلى المسؤوليات والواجبات، من ناحية أخرى. والنقطة الثانية التى أود طرحها هنا - وقد تبدو أنها غير ذات صلة مباشرة بموضوعنا - تخص احترام التزاماتنا على جميع الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية، وإن كانت تتفق مع النقطة الأولى فى شىء، ألا وهو أن الثورة بصدد إعادة البناء وليس الهدم. وأخطأ من تصور أن الثورة جاءت لهدم كل ما سبق، فإن الثورة جاءت للمحاسبة والإصلاح وليس للهدم أو الرغبة فى التشفى والثأر، وفى هذا السياق أود استرعاء النظر إلى الهجوم الذى فى غالبه غير موضوعى ومبالغ فيه على القطاع الخاص وعمليات الخصخصة. وكما ذكرت، أننا الآن فى مرحلة نريد استعادة استقرارنا ومصداقيتنا فى السوق الدولية، وأن مطالعتنا اليومية فى الصحف إلى إعادة النظر فى عمليات الخصخصة السابقة واسترداد القطاع العام لشركاته به إضرار أكثر مما يخدم مصلحة مصر فى المرحلة الراهنة. فإننا سبق أن اخترنا طريق الإصلاح الاقتصادى القائم على التحرير والانفتاح والمنافسة، وكان للقطاع الخاص دوره الوطنى والخلاق، ولا رجعة فى صلب هذا الاختيار، غير أنه إذا وجدت شبهة فساد واحتيال فهذا لا يعنى عدم تقويم الخطأ وإدخال ما قد نراه مناسباً من تعديلات وملاحقة الفاسدين - وهو ما يتم بالفعل الآن، ولكن لا رجعة عن التزاماتنا ولا تحول فى سياساتنا، فإن فى ذلك مساساً بمصداقيتنا بل وبمستقبل شبابنا الذى قام بالثورة وأننا نرتكب جريمة فى حق أنفسنا وفى حق شبابنا إن اعتقدنا أن التوقف عن العمل لتصفية حسابات سابقة أو مراجعة سياسات بحجة المطالبة بإلغاء الخصخصة ومراجعة سياسات الانفتاح والعودة إلى سيطرة الدولة المطلقة على عمليات الإنتاج الاقتصادى أو التفكير فى العودة إلى سياسة الإنتاج من الإبرة إلى الصاروخ، أخطأ من اعتقد أن ذلك يكون فى مصلحة مصر. فإن عجلة العمل والإنتاج يجب أن تستمر دون تعطل، وأن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة يجب ألاّ يتوقف، بل يجب أن نضاعف جهودنا سعياً نحو جذب الاستثمارات المصطحبة بالتكنولوجيا الجديدة فى ظل بيئة دولية تسودها المنافسة الشرسة تهافتاً على الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وأن القطاع الخاص الوطنى يجب أن يواصل دوره بكل قوة وأمانة، فإنه مازال المسؤول الأول عن العمالة والنمو الاقتصادى فى ظل مبادئ سيادة القانون والشفافية والمحاسبة، ولزاماً على الحكومة الجديدة أن تكفل هذه المبادئ الأساسية وتكون الضامن والحارس الأمين لها. كما يجب ألاّ ننسى أو نتناسى أن العولمة والانفتاح والتكنولوجيا الأجنبية التى أصبحت ركائز الدولة الحديثة والاقتصادات الناشئة هى التى ساهمت فى قيام ونجاح الثورة، واليوم يقع على القطاع الخاص العبء الأكبر، وأنه لا يتعين على الحكومة أن تكفل له الحماية المطلقة ودون ضابط، فإن الحكومة لم تعد الحليف الأول للقطاع الخاص، وعلى القطاع الخاص أن يدرك أنه بصدد إقامة تعاقدات جديدة تقوم على العدالة الاجتماعية، ويتعين أن يتم إبرام العقد بين الأركان الثلاثة - القطاع الخاص والشباب والمجتمع المدنى - فهم الحلفاء الجدد فى العقد الاجتماعى الجديد والذى يجب أن يبدأوا التفاوض عليه فى أقرب فرصة على أساس المصلحة المتبادلة والهدف المشترك وهو مصلحة مصر وليس مصالح فئوية ضيقة حتى لا تضيع ثورتنا.