نظر لي ذلك الموظف نظرة طويلة خالية من أي مشاعر، لا أتذكر أين رأيتها من قبل، أنا فقط متأكد من أني رأيتها، أيضاً لم ينطق بحرف واحد يشفي غليلي، لم أكن أعلم ما الذي ينظر إليه بالتحديد بتلك النظرة عديمة الإحساس، هل السبب هي نظارة الشمس التي كنت أرتديها وأنا أتحدث معه؟ هل شعر أن في ذلك استعلاء عليه؟ هل السبب هو شعري اللامع المصفف جيداً؟ هل السبب هو ذلك القميص الذي كلفني الكثير؟ أم الساعة التي تلمع مع ضوء الباقي من لمبات الإنارة الغير محترقة؟ حقيقة لا أعلم ولا أعتقد أنه من مكانه هذا يمكنه أن يرى حزامي وحذائي وبنطالي، استمر على نفس تلك النظرة ثم تكلم أخيراً "أنت عاوز إيه بقى؟"، أخبرته أني أريد تغيير العنوان القديم إلى ذلك العنوان الجديد المكتوب في الاستمارة، نظر إلى الاستمارة ثم نظر إلى مرة أخرى بنفس تلك النظرة الغير واضحة المعالم وكأنه ولد بها وقال لي "اجري العب بعيد يا شاطر" أبحث عن سلسلة المفاتيح لا أدري أين وضعتها، فأنا كالعادة أنسى دائماً أين أضعها عند دخولي المنزل، قررت كثيراً أني يجب أن أحدد مكاناً أضع به هذه المفاتيح الماكرة، لكني دائماً ما أنسى أو أتناسى وكأني أستبشر في الصباح برحلة البحث عن المفاتيح ثم الموبايل ثم سماعة البلوتوث ثم النظارة وأحياناً الساعة، خرجت من المنزل لست في عجلة من أمري، فأنا لست ذاهباً إلى العمل اليوم، بل ذاهب إلى مكان آخر فكرت كثيراً في الذهاب إليه من عدمه، وكان القرار بضرورة التغيير، لا لشيء ولكن حتى يكون كل شيء سليم "ومية مية"، أنا لا أحب ألا يكون كل شيء سليم وفي مكانه .... بغض النظر عن النظارة والساعة والموبايل والمفاتيح. في هذا التوقيت ستكون الشوارع شبه خالية "ودي أحلى حاجة" فأنا لا أحب الزحام، مع أنه أصبح أمراً طبيعياً تعودنا عليه ولا يمكن العيش بدونه وكأنه إكسير الحياة، إلا أنني مازلت لا أحبه "وكل شيء بالخناق إلا حب الزحام بالاتفاق"، أمنية أخرى كنت أتمناها وأنا في طريقي هي ألا أجد مبنى مصلحة الأحوال المدنية مزدحم، فيا حبذا لو انتهت كل الإجراءات بسرعة، دخلت إلى الموظف الذي كان مازال يفطر لأنه إنسان من روح ودم ولا بد أن يفطر قبل أن يزاول عمله، لا يهم أنه يضع سندوتشات الفول المليئة بالزيت على بعض الأوراق الحكومية، أو أنه في الأساس لماذا لم يفطر في منزله؟ كل هذه أمور تافهة لا طائل من الكلام عنها، المهم إن معالي الباشا يكمل فطوره، وبعد الإفطار لا بد من كوب من الشاي" عشان يضبط الدماغ "، والمواطن الغلبان الواقف في انتظاره "يتحرق بجاز"، .... ما قلنا المهم إن معالي الباشا يفطر ويحبس بالشاي. عندما قال لي "اجري العب بعيد يا شاطر" أحسست أنني أريد أن "أنط في كرشه"، ولكن هذا ما يبحث عنه أي موظف مخضرم، لأني عندما "أنط في كرشه" سوف يدعي الإصابة وهنا سوف تكون جناية تعدي على موظف أثناء تناول إفطاره، أقصد أثناء تأدية عمله، أنا سأدخل السجن لمدة قد تصل إلى 6 شهور وهو سوف يأخذ إصابة عمل و"يأنتخ" في البيت والمرتب لن ينقص من مليم أحمر، أعتقد لذلك يتعمد كثير من الموظفين إثارة واستفزاز المواطنين عسى أن ينولوا أحد الأمرين أجازة أو تعويض مادي محترم. تمالكت أعصابي وذهبت مباشرة إلى المدير، نظر إلى الاستمارة وإلى العنوان الجديد، الآن علمت من أين آتى ذلك الموظف بتلك النظرة الخالية من المعاني، إنهم يأخذون دورات تدريبية بعد التعيين عن كيفية إلقاء مثل هذه النظرات، فلقد وجدت المدير يرمقني ينفس تلك النظرة، لكن والحق يقال فلقد كان ذو خبرة عن ذلك الموظف الذي يبدو أنه مبتدئ، فنظرة المدير كانت تحمل الكثير والكثير من اللاشيء، نظرة تدل عن أنه لم يصل لهذا المنصب من فراغ، لكن لاجتهاده في إلقاء مثل هذه النظرات المعبرة عن الفراغ، "أنت عاوز إيه بقى؟" تكلم بعد طول انتظار وشوق، تكلم ليسأل نفس السؤال الذي سأله ذلك الموظف المبتدئ، الآن تأكدت أن هناك دورات تدريبية لهؤلاء الموظفين، بهدوء أوضحت أني أريد تغيير العنوان القديم بذلك العنوان الجديد. الاسترخاء أمر ممتع، خاصة بعد وجبة غداء، تجلس أمام التلفاز، يدك اليمنى تحمل كوب نسكافيه ساخن، واليسرى تحمل الريموت كنترول تقلب به بين القنوات، توقفت عند أحد البرامج الحوارية التي كانت تستضيف مسئول كبير، أعجبني الحوار، أعجبتني الأسئلة، والأكثر منها الإجابات، شعرت فيها إحساساً بالمسؤولية، دراسة منسقة، حلول لكل مشاكل الحياة، أحسست أنه مع الوقت سوف نشعر بالرخاء، سوف يرتفع دخل الفرد، سوف تنتهي أزمة ارتفاع الأسعار، سوف تختفي عمليات النصب والاحتيال، ثم تهدم كل شيء دفعة واحدة بعد أحد التصريحات المفاجئة، "السوق ملئ بالمنتجات المحلية، أكثر من 90% من المنتجات الموجودة بالسوق المحلي هي منتجات محلية الصنع"، توقفت كثيراً جداً وتأملت نظرة ذلك المسئول، لا أدري أين ضاعت كل التعبيرات الإيجابية من وجهه لتحل محلها تلك النظرة السلبية ..... أو التي تعني شيئاً آخر. تأكيدات بأن أغلب المنتجات هي منتجات محلية، حسناً، النظارة والساعة والموبايل صناعة صينية، سماعة البلوتوث وسلسلة المفاتيح والكوب إلى أشرب فيه النسكافيه صناعة صينية، القميص والبنطال والحزام صناعة صينية، الألعاب التي اشتريتها لطفلي في عيد ميلاده الأول صناعة صينية، سجادة الصلاة صناعة صينية، عندما أصبت بنزلة برد نصحني الجميع بتناول الثوم الصيني، كذلك التسجيل الجديد والأربع إطارات والأربع سماعات التي اشتريتهم للسيارة كانوا صناعة صينية، الكيبورد والماوس اللذان أستخدمها الآن في كتابة هذه الكلمات صناعة صينية، المكنسة الكهربائية صناعة صينية، يوجد ذهب صيني، وسمك صيني، وأجهزة إلكترونية صينية وقطع غيار صينية وسيارات صينية، و..... نكتفي بهذا القدر. حتى أصدق هذه التصريحات الوردية كان هناك حل وحيد فكرت فيه كثيراً، تغيير عنوان الإقامة، لذلك توجهت إلى مكتب السجل المدني وفي يدي استمارة تغيير بيانات البطاقة الشخصية أو الرقم القومي كما يقولون، الشيء الوحيد الذي كنت أريد تغييره هو عنوان الإقامة، فلقد كتبت عنواناً في الصين، هذا هو الحل الوحيد، أني الآن أعيش في الصين وبذلك ستصبح تصريحات السادة المسئولين تصريحات حقيقية بأن جميع المنتجات منتجات محلية الصنع، ولا أدري لماذا حتى الآن مازال ذلك المدير في مصلحة الأحوال المدنية ينظر إلى بتلك النظرة العجيبة. بقلم م / مصطفى الطبجي