(فى نهاية المقال السابق أشرنا إلى أن نظرة الأمريكيين إلى اليهود فى بداية القرن الماضى كانت تتراوح فى مجملها بين العداء السافر والريبة والتشكك، ولكنها تحولت إلى الانحياز المطلق للصهيونية ولإسرائيل، ولكن كيف حدث هذا فى مائة عام فهذا ما وعدنا القارئ بتناوله فى هذا المقال). لقد نظم يهود أمريكا جهودهم عبر هذه السنوات، من خلال المنظمات الصهيونية متعددة الأغراض، متحدة الأهداف، بشكل دؤوب ومضطرد، إلى أن تغلغلوا فى مراكز صنع القرار الأمريكى بطرق متعددة، حتى إن النفوذ الصهيونى وصل إلى المجالس التشريعية، وبالتالى التحكم بالسياسة الخارجية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالنزاع العربى الإسرائيلى. فمصدر التشريعات واتخاذ القرارات فى أمريكا لا يخضع لحاكم أو رئيس أو وزير، فكل السلطات متجمعة فى مجلسين تشريعيين، وهما مجلس الشيوخ وعدد أعضائه ثابت (مائة سيناتور)، بواقع اثنين عن كل ولاية من الولاياتالأمريكية الخمسين، أما مجلس النواب فيضم حوالى 460 عضوا يمثلون الخمسين ولاية أيضا، بالنسبة والتناسب مع عدد سكان كل ولاية، وجزء من هؤلاء الأعضاء يهود صهاينة. أما الجزء الأكبر فهم يخضعون لتهديدات وابتزاز المنظمات الصهيونية بشكل منظم ومنهجى، وهناك وقائع شهيرة لها دلالات عميقة على مدى نفوذ اللوبى الصهيونى، وتأثيره فى هذه المواقع التشريعية، منها هذه الواقعة المثيرة، وبطلها سيناتور أمريكى من أصل عربى اسمه «جيمس أبورزق»، ويمثل ولاية (داكوتا)، وكان هناك مشروع مطروح للتصويت يتعلق بالمساعدات الأمريكية لإسرائيل، وكانت هناك ورقة استطلاع رأى تتضمن ثلاثة اختيارات على النحو التالى: أنا مع المساعدات الأمريكية لإسرائيل. أنا ضد المساعدات الأمريكية لإسرائيل. أنا مع طرح الموضوع للنقاش. ومن الطبيعى أن يكون السيناتور «جيمس أبورزق» ضد المساعدات الأمريكية لإسرائيل، فهو نائب عربى، ويعيش فى جنة الديمقراطية على الأرض، ومن حقه أن يقول ما يشاء، وبعد تسليم الأوراق بعشرين دقيقة كانت هناك مئات المكالمات والإيميلات والفاكسات، تصل إلى مكتبه وتعارض رأيه، وتدعوه للموافقة على طلب المساعدات الإسرائيلية، فلم يتراجع، وفجأة تطور الأمر إلى خروج مظاهرات فى دائرته الانتخابية تطالبه بالعدول عن رأيه، وفى أمريكا لو طالب عشرة أفراد ممثلهم فى الكونجرس بمطلب ما ولم يستجب لرغبة ناخبيه فلن ينتخبوه ثانية، وربما يسحبون منه الثقة، مما اضطره مكرها للموافقة على طلب المساعدة، لأن مكتبه أبلغه بأن المظاهرات أصبحت أسفل مقره الانتخابى، ولكن سرعة التحرك أثارت دهشته. فقرر تتبع هذه الظاهرة، وبالفعل طلب قائمة بأرقام التليفونات التى اتصلت به، والفاكسات التى أرسلت لمكتبه، وفوجئ بأنها كلها من خارج دائرته الانتخابية، وأن المصدر الوحيد لها هو أعضاء منظمة (آى.باك) أى اللوبى الصهيونى، بما فى ذلك المظاهرات المصطنعة التى نددت بوقفه وهددته باتهامه بمعاداة السامية، وهى تهمة بغيضة فى أمريكا. أما السيناتور الأمريكى «بول فيندلى» صاحب الكتاب الشهير (يجرؤون على الكلام) فقال: «نحن بحاجة إلى انتفاضة للتخلص من التحكم الصهيونى فى المجلسين التشريعيين».... أما السيناتور «أدلاى استيف سون» وهو من السياسيين المخضرمين، وكان أبوه مرشحا للرئاسة ضد «أيزنهاور»، فقد قال: «إن وزير خارجية إسرائيل له نفوذ فى السياسة الأمريكية الخارجية أقوى من نفوذه فى سياسة إسرائيل الخارجية نفسها». وقبل أن أتلقى ردودا من أصدقائى القراء تستنكر بعض ما أكتب مثلما حدث الأسبوع الماضى أريد أن أنوه إلى أننى أعلم تماما أن الصهيونية العالمية ليست بهذا القدر من القوة والهيمنة، ومن الخطورة بمكان تضخيم هذه القوة (خاصة إذا كان هذا هدفا صهيونيا قديما)، ولكننا نحن العرب المختلفين دائما، المتفرقين دائما، ليس لدينا مشروع للمواجهة، ولا إستراتيجيات أو خطط مستقبلية لوقف ذلك المد الصهيونى. فهم ليسوا أقوياء إلى هذا الحد، ولكننا نحن الضعفاء، ومن الحقائق المحزنة أن عدد اليهود فى أمريكا لا يزيد على 6 ملايين، وعدد العرب حوالى 8 ملايين، وعدد المسلمين الأمريكيين 13 مليونا، ولكن كل هذه التجمعات بلا فاعلية تذكر، لأنهم لا يملكون القدرة على التنظيم، ولا الإمكانيات المالية الرهيبة المتاحة للوبى الصهيونى، ولا يملكون التفرغ المتاح للكوادر الصهيونية النشطة.