أظن أن عنوان هذا المقال فى حاجة إلى برهان، ذلك أن الرأى الشائع هو عكس هذا العنوان، لأنه يرد آخره على أوله فيقال ضبط الفكر مرهون بضبط اللغة، وأنا أذهب إلى عكس هذا الرأى الشائع، إذ أذهب إلى أن اللغة هى وسيلة التواصل بين البشر، والتواصل لا يتم بقواعد اللغة، وإنما يتم بقواعد العقل، وفى رأيى أن للعقل قاعدتين لاكتساب المعرفة، هما: القدرة على «التجريد» والقدرة على تكوين «علاقات»، فالعقل وهو يواجه العالم الخارجى، يجد نفسه أمام أشياء محسوسة فى حالة فوضى فيحاول تنظيمها، إلا أن تنظيمها ليس ممكناً إلا بالعقل، والعقل ليس فى إمكانه ممارسة عملية التنظيم إلا بفضل ما يتسم به من هاتين القاعدتين المتحكمتين فى سلوكه المعرفى، قاعدة التجريد تبين كيفية انتزاع الخصائص المشتركة بين مجموعة من المحسوسات، كأن ننتزع خاصية العقل من مجموعة من البشر ثم نعممها على كل البشر فنقول عن الإنسان إنه حيوان عاقل، أما قاعدة تكوين العلاقات فهى خاصة بالمحسوسات، إلا أن الإنسان قد يتوهم أن هذه العلاقات قائمة فى المحسوسات، ولكن حاصل الأمر غير ذلك، إذ إن هذه العلاقات من صياغة العقل، ثم يرتقى الإنسان فى تكوين هذه العلاقات إلى الحد الذى يصوغ فيه معتقدات وفلسفات، وأيديولوجيات، وكل ذلك من شأنه أن ينشئ تواصلاً بين التجمعات البشرية يعبر عنه بألفاظ محكومة بقواعد من صياغة الإنسان يطلق عليها مصطلح «النحو»، وقد جرى العرف على أن تكون القاعدة الأولى منشئة لعلم المنطق والقاعدة الثانية منشئة لعلم النحو. وبعد نشأة هذين العلمين، كان على الفلاسفة تحديد المفاضلة، بمعنى تحديد أيهما أسبق من الآخر، إلا أن هذا التحديد قد واجه جدلاً عنيفاً فى العالم الإسلامى، فقد نشأ علم النحو فى الوقت الذى تُرجمت فيه كتب المنطق من اليونانية إلى العربية فى منتصف القرن الثانى الهجرى، ثم أثيرت فى القرن الثالث الهجرى مسألة المفاضلة، بين المنطق والنحو، وفى القرن الرابع الهجرى جاء التعبير عنها فى المناظرة التى جرت بين أبى سعيد السيرافى «مات 979م» المشهور بأنه شارح كتاب سيبويه الذى كان يُسمى «قرآن النحو» وبين أبى بشر متى بن يونس «مات 940م» المترجم للتراث اليونانى، أو بالأدق للتراث الأجنبى المتمثل فى الفلسفة والمنطق والرياضيات والطب. ونوجز المناظرة فنقول إن من رأى السيرافى أنه إذا كان أرسطو اليونانى قد وضع المنطق على لغة أهل اليونان، فليس من اللازم أن ينظر العرب فيه ويتخذوه حكماً لهم وعليهم، وكان رد أبى بشر بأن معانى المنطق واردة لدى جميع بنى البشر، فأربعة وأربعة ثمانية عند الجميع، وعندما يئس السيرافى من قدرة أبى بشر على الفهم، قال: «النحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة»، وهذه المناظرة منشورة فى كتاب أبى حيان التوحيدى المعنون «الإمتاع والمؤانسة»، فى الجزء الأول «من صفحة 108 إلى صفحة 129». وأنا أظن أن إيثار النحو على المنطق عند السيرافى مردود إلى رؤية النحويين إلى المنطق على أنه مدخل إلى الأجنبى، والأجنبى شر، ومن ثم فالمنطق شر، ولهذا قيل «من تمنطق تزندق»، أما إذا استبعدت هذه الرؤية فالمفاضلة تكون للمنطق دون النحو. ولا أدل على ذلك من قول كانط - وهو فيلسوف ألمانى من القرن الثامن عشر، إن تجاوز منطق أرسطو أمر محال، ولا أدل على ذلك أيضاً من أن إيثار النحو على المنطق هو إيثار للفظ على المعنى، وإيثار للمحسوس على المعقول، الأمر الذى يفضى إلى النظر إلى العقل على أنه أدنى من الحس، فى حين أن عكس ذلك هو الصحيح. ومن هنا تأتى الأهمية التاريخية للمناظرة التى جرت بين السيرافى ومتى، إذ هى يمكن أن تكون تفسيراً للشكوى السائدة الآن من القائمين بتدريس اللغة العربية من عجز الطلاب عن إتقان الكتابة بهذه اللغة، وأنا أظن أن السبب فى ذلك العجز مردود إلى أن الغاية من تدريس أية مادة هى النجاح فى الامتحان بأعلى نسبة ممكنة، وفى إطار هذه الغاية تتحدد طريقة تدريس اللغة العربية فى دائرة «وضع نماذج إجابة»، و«حل أسئلة امتحانات سابقة» و«طبع كتب سؤال وجواب»، و«تعاطى دروس خصوصية»، لكى تسهم فى تعليم الطالب كيفية حل الأسئلة بأيسر الطرق. وأمثل لما أقول فى مجال التعليق على أى نص أدبى، بأن يكتب الطالب هذه العبارة: «النص قوى العاطفة، جميل الصور، جذل الألفاظ»، وهكذا يكون ضبط اللغة من غير ضبط الفكر فينفصل اللفظ عن المعنى، ومن ثم تأتى المعانى بلا ترتيب منطقى، ولكى يكون الوضع على الضد من ذلك يجب أن يكون ضبط اللغة مرهوناً بضبط الفكر.