يثير مسح القيم الأخير، الذى أجراه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، التابع لمجلس الوزراء المصرى، الكثير من العجب وعلامات التعجب.. لكنه - إذا وافقنا على المنهج العلمى الذى اتبعه المسح - يرصد نتائج شديدة الأهمية. فالنسبة الأعلى من المصريين لا تهتم بالسياسة (63% ).. والوجه الآخر للاجابة هو أن النسبة الأعلى من المصريين تهتم بلقمة العيش، العلاج، التعليم، العمل وبالحياة الكريمة.. ولذا فكل هذا الضجيج الذى أثيره أنا وزملائى عن الديمقراطية وتداول السلطة والحريات وحقوق الإنسان، هو فى حقيقته - وطبقاً لهذا المسح - حديث نخبة لا يهم المصريين أو غالبيتهم. وحتى لو كان هدفنا فى النهاية هو حياة أفضل للمواطن (لأن الديمقراطية فى أصلها طريق لهذه الحياة وليس غاية فى حد ذاتها)، فيبدو أننا لم ننجح فى توصيل الرسالة بشكل أوضح. فإذا انتقلنا إلى مفاهيم العمل، نجد أن أكثر من نصف المصريين يفضلون ملكية الدولة لقطاع الأعمال والصناعة، وفى سؤال لاحق أظنه يفسر النتيجة الأولى كثيراً، يفضل قرابة 61% من المواطنين أن تتحمل الدولة مسؤولية أكبر فى توفير احتياجات الأفراد. وهنا علينا أن نتوقف كثيراً. فمع الإصلاح الاقتصادى وزيادة دور القطاع الخاص يبقى القطاع العام هو الأكثر تأثيراً والأكثر جذباً لطلبات العمل، على الرغم من انحسارها وضعف رواتبها. والدليل على ذلك أن مصانع كثيرة من القطاع الخاص لديها نقص كبير فى العمالة، فى حين إذا طرحت الدولة فرصاً للتشغيل - وهذا نادر الحدوث الآن - تتهافت عليها آلاف الطلبات. لماذا؟ لن أذهب إلى تفسيرات اقتصادية معقدة، لكنى سأضطر إلى اللجوء للنتيجة الثانية من المسح: المواطن المصرى يريد الدولة مسؤولة عنه.. طبعاً قد يعكس ذلك خللاً فى دور القطاع الخاص، لكنه يعكس على الوجه الآخر غياب ثقافة العمل الجاد وثقافة العقاب والثواب. فالعامل - خاصة فى القطاع العام - اعتاد أن يحصل على الأرباح مع نهاية العام، سواء ربحت الشركة أو خسرت، لذا فهو يريد أن يحصل على وظيفة القطاع العام الآمنة المستقرة، والتى تتيح له أن يعمل بجانبها فى القطاع الخاص. وهكذا يضمن الأمان والمال معاً. وإذا سألت بعضهم لماذا تهرب من القطاع الخاص؟ يقول لك لأنه غير آمن. والأمان هنا معانيه متناقضة.. هل هو زيادة ساعات العمل والحساب طبقا لذلك، هل هو المتابعة الدقيقة لأداء العامل أو الموظف، هل هو الترقى طبقاً للكفاءة وليس الأقدمية، أم هو البقاء فى الوظيفة أياً كان أداؤك؟!. نحن ضد ثقافة العمل الحر، نفضل العمل الحكومى المستريح الآمن حتى ولو كان دخله قليلاً.. وذلك لا يمكن أن يدفع إلى رقى الأمم ونهضتها. ويتابع المسح، ليدلل على ما سبق فى سؤال حول أولويات العمل لدى المصريين: نجد أن النسبة الأكبر (44%) تبحث عن وظيفة آمنة دون التعرض للطرد أو البطالة (القطاع العام والحكومة) تليها (41%) يبحثون عن راتب جيد لا يقلق صاحبه بشأن المال، أما النسبة الأقل (8%) فهى التى تبحث عن عمل مهم يعطيها إحساساً بالإنجاز.. الإنجاز رغبة غير موجودة كثيراً لدى المصريين، ربما لانتشار الفقر والجهل والبطالة.. هذا صحيح ولكنه مؤشر مثير ومهم، لابد من تغييره سريعاً وإلا استمرت الكارثة. وينتهى المسح بأن المصريين سعداء (74% سعداء، 10% سعداء جداً) لماذا؟! لا أجد مبرراً لذلك.. لكن بصراحة، هذا قد يعنى أنه على الرغم من كل ما يعانيه المصرى فهو يشعر - بشكل ما - بالرضا، أو ربما لأن المصريين يميلون إلى التمسك بالدين ولا يفضلون التعبير عن عدم سعادتهم علانية، أو ربما لأنه استطلاع حكومى، فخاف المشاركون فيه أن تتعقبهم أجهزة الحكومة بعد ذلك فتحاكمهم بتهمة «ازدراء الحكومة»! (يعنى إيه مش مبسوطين!!) [email protected]