حين قلنا إن هناك تفتتًا فى سلطة اتخاذ القرار نتيجة صراعات الأجنحة ومراكز القوى داخل النظام والحزب الحاكم والحكومة وأن الرئيس يجد نفسه فى كثير من الأحيان مطالبًا بالتدخل وهو ما يكشف عن حجم الفوضى، وتضارب المصالح الخاصة مع العامة لدرجة أصبحت لها الأولوية على المصلحة العليا للبلاد فى بعض الأحيان، ويكفى إعادة التذكير بسرعة بالمشروع الذى أعلن وزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان، عندما كان فى منصبه، أنه وضعه للتنفيذ بردم أجزاء من نهر النيل فى القاهرة تبدأ من أمام وكالة البلح وتصل إلى مجرى العيون لإنشاء طريق مواز للكورنيش، وهذه عملية لا تدخل فى اختصاصه، وتم هذا من وراء ظهر رئيس الوزراء، ووزيرى الرى والنقل ومحافظ القاهرة وإدارة المرور، وكان يخوفهم بالإعلان عن حصوله على موافقة الرئيس عليه. وفعلاً أسرع نظيف بالموافقة، وطلب وزير الرى السابق الدكتور محمود أبوزيد مهلة ستة أشهر لدراسة آثار الردم عن مجرى النهر فكان رد نظيف.. ثلاثة أشهر فقط وبعدها يبدأ التنفيذ.. وسواء كان سليمان يريد أن يحل أزمة المرور فى هذه المنطقة كما قال، أو أمام فندق الفور سيزونز- كما قيل- فلم يوقف المشروع الأزمة وصديقنا مكرم محمد نقيب الصحفيين عندما كان رئيسًا لتحرير مجلة المصور، بعد أن طالب الرئيس بأن يوقف سليمان عند حده لأنه يستخدم اسمه لإرهاب الوزراء لتمرير المشروع مما دفع الرئيس بدوره إلى أن يرد فى اليوم التالى بغضب على مكرم قائلاً إنه لم يوافق على المشروع، وأن سليمان عرضه عليه فقط. ثم تمت إقالته بعدها وأسرع نظيف بالإعلان عن إلغاء المشروع ثم طالب الرئيس الحكومة بإزالة أى تعد على النهر ثم دخل نظيف فى معركة مع وزير الكهرباء الدكتور حسن يونس، وهيئة الطاقة الذرية حول إقامة أول محطة لتوليد الكهرباء من الطاقة الذرية فى الموقع الذى تم إعداده لها فى منطقة الضبعة وأعلن رفضه للفكرة ومؤيدًا لعدد من رجال أعمال النظام وأمانة السياسات لتحويل الموقع لمشروع سياحى يتملكونه. رغم أن الذى أثار فكرة بدء البرنامج النووى كان جمال مبارك نفسه فى مؤتمر الحزب ونُشر أن أمانة السياسات درسته، وهو ما أثار غضبًا شديدًا لدى أجهزة حساسة اعتبرت إقحام مجموعة من أعضاء المجلس الأعلى للسياسات نفسها فى هذه القضية تجاوزا على اختصاصاتها، وعلى الأمن القومى، وتدخل الرئيس للتهدئة فى خطابه فى اختتام أعمال المؤتمر بالقول بأنه الذى كلف المجموعة بذلك، وبعدها تم إبعاد أمانة السياسات نهائيًا عن المشروع. لكن برز الدور الخطير وشديد الغرابة لعدد من رجال أعمالها بدعم من رئيس الوزراء وأحمد المغربى الذى كان وزيرًا للسياحة وقتها للاستيلاء على أرض الموقع لتحويلها لمشروع سياحي، ووصل الأمر إلى حد شراء رجل الأعمال وعضو أمانة السياسات، والهيئة العليا إبراهيم كامل الأراضى الملاصقة للموقع والتى هى حرم له، وتحدث عن المشروع باستهانة واستهزاء قائلاً عنه: «المشروع لا يتعدى توليد شوية كهرباء. وبالتالى لم يكن يستدعى ردود الفعل التى رأيناها لدى البعض ممن تصوروا أننا داخلون العصر النووى وحنفرتك الدنيا نوويًا، إنها مجرد محطة لتوليد الكهرباء»، وذلك كما جاء فى حديثه الذى نشرته له مجلة المصور يوم الأربعاء الماضى وأجرته معه زميلتنا سناء السعيد.. ولهذا يصبح السؤال هو: ما هذا النظام الذى يضم حزبه قيادات تعلن دون خوف عن تصميمها على شراء أرض مخصصة لمشروع تعتبره أجنحة أخرى وأجهزة حساسة يتعلق بأمن البلاد ومستقبلها، لتقيم عليها مشروعات مملوكة لها تحقق من ورائها أرباحًا أسطورية؟ وأين تبدأ مصلحة البلاد العليا، قبل أم بعد مصالحهم؟! ووصلت الأمور فى الأيام الماضية إلى مستوى يشير إلى أننا لم نعد فى دولة لها سلطة واحدة، بعد أن تكررت حوادث قيام أفراد مصريين باصطحاب أجانب لمعاينة الموقع وإسراع وزارة الكهرباء بالاستنجاد بوزارة الداخلية لإقامة نقطة شرطة بجوار الموقع وكأنها أصبحت مثل مناطق الحدود بين دارفور وتشاد.. يحدث هذا رغم أن هذه القضية أصبحت فى يد الرئيس نفسه، ولم تقف عملية تحديه عند ذلك، وإنما تجاوزتها إلى سياسات بالنسبة للعلاقة مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، فإبراهيم كامل نشرت له جريدة اليوم السابع يوم الثلاثاء 21 من شهر أبرايل الماضى حديثًا أجراه معه زميلنا عيد عبدالحميد، هاجم فيه موقف مصر من إسرائيل قديمًا وحديثًا بسبب اهتمامها بقضية فلسطين واعتبرها دولاً معتدية، وأنه قام بالتطبيع نيابة عنها إذ قال بالنص «اشتريت فى وقت من الأوقات، عامدًا متعمدًا فى شركة كورت الإسرائيلية أسهمًا، بعد رفض العديد من رجال الأعمال الزيارة، وكان ذلك أثناء حكومة نتنياهو، لأمحو الاتهام الإسرائيلى للحكومة المصرية بأنها تمنع رجال الأعمال من التطبيع مع إسرائيل، وللتأكيد على عدم وجود مشكلة مصرية مع إسرائيل، ولكن المشكلة فلسطينية - إسرائيلية طبعًا.. وهذا ما أتى ب«الحَشْرة» المصرية فى البداية فى حرب 48 فمصر لم يكن لديها مشكلة مع إسرائيل، ولكن للأسف دُفعت دفعًا إلى الحرب. بدلاً أن نتكلم عن الدماء والثمن لابد أن نعرف من الذى أراق الدماء أولاً، أليسوا المصريين؟ وهل جاء جيش إسرائيل إلى مصر وأراق دماءنا؟ الحرب بدأت عندما أقحمنا أنفسنا فى حرب 48 ونحن من بدأها، ولماذا أحارب فى أرض غير أرضى، فهذا تصرف خاطئ مائة فى المائة. - الغريب أن من يحاول أن يقول الحقيقة يُتهم بالعمالة وطبعًا لابد من توجيه الشكر له لأنه طمأن نتنياهو فى حكومته السابقة أن الحكومة لا تمنع رجال الأعمال من التطبيع ويبرر جرائم إسرائيل ضدنا، ولهذا لم يعد مستغربًا أن يعتبر إقامة أول محطة ذرية «شوية كهرباء» لا يمكن أن يكون بهذه الجرأة إلا إذا كان معبرًا عن جناح داخل الحزب والنظام.. والذى يثير الرعب فعلاً من المدى الذى وصل إليه تفسخ النظام، أن تتحول هذه المجموعة إلى تحديد سياسات مصر نحو إسرائيل، وتبرئتها من الاعتداءات على شعبها وما ارتكبته من مجازر ضده لدرجة أننا السبب فى مهاجمتها لنا عام 1956 لأننا أممنا قناة السويس! إلى أين يأخذ هذا النظام مصر؟ ومتى يضع الرئيس حدًا حاسمًا لإعلاء مصالح قيادات داخل حزبه على مصلحة البلاد؟