إعلان وقضية ومناسبتان.. أربعة تثير الجنون! فأما الإعلان فتنشره جمعية خيرية «اكفل قرية فقيرة»، وأما القضية فهى ما بات يُعرف بفضيحة سياج، وأما المناسبتان فإحداهما دينية «اقتراب رمضان»، والثانية سياسية «اقتراب مؤتمر الحزب الوطنى». تصلح الواحدة من هذه الأشياء الأربعة المتنافرة لإعطاء فكرة عن نوع الحياة ونوع الحكم فى بلد ما، لكن وضعها معاً فى بلد واحد، ومطالبة إنسان واحد بفهمها، فهو أمر لا يقود إلا إلى الجنون أو الموت كمداً. يستطيع بشر عادى، ببعض التدريب على الاحتمال، وباستقاء بعض العِبَر من تاريخ مَن عَبر هذه الحياة من الشعوب والأمم، أن يحتمل الإعلان الخيرى «اكفل قرية فقيرة.. أو يتيمة»، باعتباره تصعيداً لنداء ساد فى السنوات الأخيرة من أجل كفالة طفل يتيم. نستطيع أن نفهم كيف تموت الحكومات أو الأنظمة (آباء القرى) مثلما يموت الآباء الطبيعيون، ونستطيع رغم الاستحالة النظرية تصور ميلاد قرية لقيطة وجدتها حكومتنا بجوار إحدى دور العبادة، ولا تستطيع أن تكفلها مع عيالها وقراها الشرعية، فكان من الضرورى أن يتقدم أحد لكفالة القرية بنت الحرام. ولكن.. من أين نأتى بعقل يحتمل التفكير بشأن الشخص المقصود، الذى يتوجه إليه الإعلان برسالته بفعل الأمر المفرد «اكفل»؟ كيف يتوقع ناشرو الإعلان وجود شخص قادر على كفالة قرية، من أين له هذا، حتى لو افترضنا أنه بدأ العمل منذ اللحظة التى أعلن فيها السادات عن الانفتاح الاقتصادى، وأن الله بارك فى غنمه، كما بارك فى أغنام إبراهيم ولوط يوم صرفهما الفرعون بالهدايا؟! لا يوجد خبير اقتصادى فى الكون، يمكنه أن يصدق وجود فرد يستطيع أن يكفل قرية من هوامش ماله، فى زمن انقطاع النبوة ومعجزاتها، إلا إذا اطلع على تفاصيل قضية «سياج» التى صارت بفضل متابعات محررى «المصرى اليوم»، وبفضل مقالات الدكتور حسن نافعة على هذه الصفحة، إحدى علامات السفاهة فى هذه الحقبة ناشفة الدموع. سفاهة الموت أكرم وأستر من هذا الذى يجرى. ولو كان هذا النظام رجلاً لتمنت أسرته أن يموت قبل أن يجلب لنفسه عار تبديد أمواله ثم التسول لإطعام وكفالة عياله. نصف مليار جنيه تعويضات، ستدفعها الدولة لمستثمر.. كان من الممكن أن تحافظ على كرامة قرية أو عدة قرى من تلك المعروضة للتبنى! والقضية تتلخص فى تخصيص قطعة أرض لمستثمر ثم سحبها منه، لأنها فى مكان حساس بالنسبة لأمن مصر، ثم تخصيصها لمستثمر آخر، مما جعل المستثمر الأول يحتج أمام القضاء، مستنداً إلى مبدأ الإخلال بالفرص بين المستثمرين، ولم يكن أمام القضاء إلا الحكم بتعويضه. ومن المنطقى أن يكون الإخلال بالفرص بين مستثمر وآخر، تحت أى ذرائع أو ملابسات مرفوضاً، ولكن نصف المليار الذى ستحرم منه الخزينة لصالح سياج، ليس التبديد الأول ولن يكون الأخير طالما بقى فى هذا النظام عرق ينبض. والقضية الأعمق ليست فى مبدأ المساواة بين المستثمرين، بل المساواة بين المواطنين. وهكذا يصبح السؤال حول مشروعية منح هذا المستثمر أو ذاك أرضاً بالمجان، خطرة أو آمنة، صحراء أو بستاناً! لماذا لم تمنح أرض سياج لى أنا مثلاً؟ ولماذا لم تمنح لى أرض «مدينتى» بدلاً من هشام طلعت مصطفى؟! أنا المواطن عزت القمحاوى المديون بقوت يومى لفيزا البنك الأهلى، قادر مثل كل المستثمرين الذين صنعهم النظام على الاستدانة من البنوك لتسديد الجنيه أو الدولار وكسوره، ثمن كل متر من الأرض أحصل عليه بضمان الأرض نفسها.. أليس كذلك؟! ما المواهب التى يتمتع بها هذا المستثمر أو ذاك لتجعله يحصل على أرض لا أحصل عليها أنا أو زيد أو عبيد من أبناء مصر؟! وحتى لا نتهم بالحقد، تعالوا نتصور أن الأرض الممنوحة لسين أو صاد من المستثمرين الأفراد تم تخصيصها لإحدى القرى اليتيمة المعروضة للتبنى، هل كنا سنضطر لنشر إعلان الشحاذة على القرى اليتيمة؟! هذه أسئلة مشروعة، ومثلما احتملنا نار طرحها، نتمنى أن يكون هناك من يحتمل سماعها اليوم، بمناسبة اقتراب رمضان الكريم ومؤتمر الحزب، ليس من أجل الإصلاح، بل من أجل الحفاظ على شىء من وقار الصورة، بوضع حدود للمبالغة فى ادعاء الفقر فى رمضان وادعاء الغنى فى مؤتمر الحزب. كل ما نريده رمضاناً مختلفاً، لا ترتدى فيه الحكومة أسوأ أثوابها ولا تصطنع لنفسها عوراً وعرجاً صناعياً، لكى تتوسل إلى رجال الأعمال كفالة عيالها، وتقطع قلوب الصائمين. كما نريد مؤتمراً أكثر تواضعاً، لا ترتدى فيه الحكومة أبهى ملابسها، ولا تجاهر بال«لاب توب» فى أيدى قيادات حزبها، تلعلع شاشاته بخطوط بيانية صاعدة، تؤكد رسماً وكتابة أن اقتصادنا فوق.. فى العلالى! وأنا أقر بأن أمثالى ممن امتلكوا الكمبيوتر المحطوط تقسيطاً، لا يمكنهم أن يجرؤوا على التشكيك فى أرقام يؤكدها الكمبيوتر المحمول. لكن أمثالى لا يمكن أن يتنازلوا عن سؤال بسيط ومؤدب، لا يجرح كرامة أحد أو يشكك فى مصداقيته: كيف يمكن أن نستوعب الحقيقتين معاً؛ حقيقة النجاح الاقتصادى وحقيقة عرض الشعب فى سوق «الشحاتة»؟!