كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة مساءً، عندما التف خبراء وزارة العدل، وجلسوا فى مجموعات يتراوح عدد الواحدة منها ما و6 إلى 10 أفراد، ليتناولوا وجبة العشاء المكونة من كوب زبادى وقطعتين من جبن «النستو» وقالب حلوى وثلاثة أرغفة من الخبز. الوصول إلى مقر اعتصام خبراء العدل أمر سهل، حتى لو كنت لم تحظ بزيارته من قبل، فكل ما عليك فعله هو التوجه إلى ميدان لاظوغلى بالسيدة زينب، وبمجرد وصولك إلى الميدان الذى يتوسطه تمثال، ستجد كل الشوارع المؤدية من وإلى الميدان تشع بأنوار الأعمدة الكهربائية ذات المصابيح «التنجستية»، والتى تمنحك شعورا بأنك فى الثانية عشرة ظهراً وليس الثانية عشرة صباحاً، إلا أن شارعاً واحداً خلا من تلك الأنوار، حيث أشعة الظلام السوداء تعبث بأعين من يحاول النظر إليها، وكأنها تستغيث بك وترشدك إلى سلالم وزارة العدل التى اتخذها الخبراء ملاذاً لاعتصامهم. دخول الشارع ليس أمراً سهلاً إذ يقابل المارة حواجز حديدية، يقف خلفها ضابط يرتدى ملابس زيتية اللون، ويحمل فى يده جهازاً لاسلكياً ويحيط بخصره رشاشا آليا صغيرا، وظيفته إغلاق الشارع وعدم السماح للمارة بالمرور خلاله بعد الساعة الواحدة صباحاً، ولكنك إذا أخبرته بأنك قادم لزيارة الخبراء ربما يسمح لك بالمرور ولن يتركك إلا إذا تأكد من جلوسك معهم . رغم وجود 8 أعمدة كهربائية على سلم وزارة العدل تنتهى قمتها بمصباحين كهربائيين، والتى تجعلها كفيلة بإنارة الشارع بأكمله، لم يجد خبراء وزارة العدل سوى الضوء الخافت الصادر من هواتفهم الخلوية، لإنارة المكان الذين يجلسون فيه على سلم الوزارة، بعدما قطعت وزارة العدل التيار الكهربائى عن تلك الاعمدة الكهربائية منذ بدء اعتصام الخبراء. 18 يوماً كانت كفيلة لتأقلم الخبراء مع اعتصامهم ومبيتهم على سلم وزارة العدل، حيث استطاعوا التغلب على الصعوبات والعراقيل التى تواجههم، وقسّموا أنفسهم إلى لجان تؤدى كل منها وظيفة معينة، فستجد لجنة مختصة بإحضار الوجبات الغذائية التى تقتصر على وجبتى الإفطار والغذاء فقط، ولجنة مسؤولة عن تنظيف المكان الذى يبيتون فيه، أى سلالم الوزارة، ولجنة مختصة بالاتصال بوسائل الاعلام وإطلاعها على آخر تطورات الاعتصام. الثامنة صباحاً هى بداية الإعلان عن يوم جديد فى اعتصام الخبراء – حسب قولهم - حيث يتوجه فور حلولها الخبير سامح حمزاوى، لإحضار وجبات الإفطار للخبراء، والتى تشبه إلى حد كبير وجبة العشاء، ثم تقوم اللجنة المسؤولة عن النظافة بتنظيف المكان وتجميع المهملات فى جرادل بلاستيكية وإلقائها فى صندوق القمامة القريب من الميدان، وتقوم اللجنة الإعلامية بتدوين يوم الاعتصام على «أجندة الاعتصام»، التى أعدها الخبراء كعد تصاعدى لأيام اعتصامهم المفتوح. ويجلس الخبراء المعتصمون خلف لافتاتهم الاحتجاجية الخضراء اللون، والتى تحمل عباراتهم الاستغاثية التى اشتهروا بها خلال اعتصامهم «أغثنا يا سيادة الرئيس»، مرفقا بها صورة كبيرة للرئيس مبارك، هى نفسها الصورة التى تضمنتها اللافتات الانتخابية الرئاسية الأخيرة للرئيس مبارك. يتوسط الفترة مابين الثامنة صباحاً وحتى التاسعة مساءً تناول وجبة الغذاء، والتى يتحمل نفقتها كل خبير بمفرده، حيث إن وجبات الإفطار والعشاء تقدم مجاناً للخبراء المعتصمين، من خلال التبرعات التى يقدمها زملاؤهم من مختلف مكاتب الجمهورية، إلى جانب الدعم المادى الذى يقدمه الخبراء كبار السن أو المرضى من غير القادرين على السهر، كنوع من المشاركة فى الاعتصام، فضلاً عن الذهاب إلى مقهى «البشبيشى» لتناول المشروبات المختلفة، والذى عرف خلال اعتصام الخبراء بمقهى «الخبراء». التاسعة مساءً هو موعد اللجنة الإعلامية التى تذهب إلى وسط البلد، لشراء جميع الجرائد القومية والخاصة والحزبية، للاطلاع على التغطيات الاخبارية التى تقوم بها الصحف الخاصة والمستقلة عن اعتصام الخبراء، أو معرفة آخر التصريحات الإعلامية لوزارة العدل أومن يمثلها، حول اعتصامهم، فى الجرائد القومية. بعد صلاة العشاء التى يؤديها البعض على سلالم النقابة، والبعض الآخر فى المساجد القريبة من المكان، يجلس الخبراء فى مجموعات سمر، يتحدث كل منهم عن العمل فى مكتبه والقضايا التى شارك فيها من قبل، وتسيطر على هذه الجلسات أكواب الشاى الزجاجية ال 30، والتى اشترتها اللجنة المختصة بإحضار الوجبات، للتخفيف من المصاريف التى ينفقها الخبراء نتيجة الجلوس على المقاهى، إلى جانب إحضار غلاية للمياه وأكياس السكر وعبوات الشاى، لعمل «بوفيه» بجوار سلم الوزارة . جلسات السمر ربما تنتهى بمبيت الخبراء فى أماكنهم على القطع القماشية التى تفصلهم عن أرضية سلالم الوزارة المصنوعة من الرخام، متخذين من الجرائد التى اشتروها «وسادات». دقات الساعة الثانية صباحاً من أصعب الأوقات التى يمر بها الخبراء، حيث يتعالى معها نباح كلاب حراسة وزارة العدل، والذى يستمر لما يقرب من الساعة، وتهتز معه أرجاء المنطقة من شدة الصدى الذى يتركه هذا النباح، لدرجة جعلت بعض الخبراء يضبطون ساعاتهم على صوت نباح «كلاب الوزارة»، وجعلت البعض الآخر يظنها مؤامرة تتعمدها وزارة العدل لعدم إراحة الخبراء. الخبراء لم يكتسبوا تأييد وتضامن قياداتهم، الذين أصدروا بياناً موقعاً من مصلحة الخبراء بتأييد مطالبهم فحسب، وإنما كسبوا تعاطف أصحاب المحال التجارية والمقاهى والمكتبات والمطاعم المحيطة بالوزارة، وهو ماظهر - بحسب قول بعض الخبراء - فى التخفيضات الهائلة التى يقوم بها أصحاب تلك المنشآت للخبراء، والتى وصل بعضها إلى النصف، إلى جانب تعاطف بعض أئمة المساجد المحيطة مع قضيتهم، حيث أثنى إمام أحد المساجد على مثابرة الخبراء واعتصامهم المفتوح لحين الحصول على مطالبهم. قبل شروق الشمس بدقائق ومع أذان صلاة الفجر، تجد بعض الخبراء يبادرون بترتيب حقائبهم واستبدال ملابسهم من «البيجامات والحلات الرياضية»، بالبدل التى يعلقونها على الجدار الزجاجى لمبنى وزارة العدل، ليعلنوا انطلاقهم إلى مكاتبهم المتفرقة فى انحاء الجمهورية، ليسلموا راية الاعتصام إلى زملائهم فى المكاتب الأخرى، حيث إنهم يتبعون نظام التناوب مع بعضهم البعض، بهدف استمراريته ومشاركة جميع الخبراء فى الاعتصام، فى الوقت الذى تمسك فيه بعض الخبراء بارتداء بذلتهم والنوم بها . محمد طاحون، خبير بمكتب الشرقية، ترك أولاده الأربعة جهاد وآية وأحمد وسارة فى رعاية زوجته، معللاً غيابه عن المنزل بوجود مشكلة مع رئيسه فى العمل، وأنه يعمل على إيجاد حل لها، تساؤلات أولاده لا تتوقف عن توقيت حل الخلاف حتى يتمكن من المبيت معهم وقضاء أغلب الوقت بينهم كما كان يفعل فى الماضى. سامح حمزاوى، أحد المعتصمين، لم يمرعلى زواجه شهران، قضا منهما ما يقرب من نصف الشهر على سلالم النقابة، تاركاً عروسه الجديدة وحدها فى المنزل، أملاً فى أن ينتهى الاعتصام إلى الاستجابة لمطالبهم. رغم المتاعب التى مر بها خبراء وزارة العدل خلال فترة اعتصامهم، إلا أنهم مازالوا يتذكرون بعض المواقف الطريفة التى مروا بها، منها استبدال حذاء بين اثنين من المعتصمين، لم ينتبها إلى الفرق بين الحذاءين، قبل سفر أحدهما خارج القاهرة، مما دفع المعتصمين إلى جمع بعض الاموال لشراء حذاء جديد لزميلهم الموجود من شارع طلعت حرب. الموقف الطريف الثانى من وجهة نظر الخبراء، عندما تقدم زميلهم لخطبة زميلة له، كانت تقف على سلم الخبيرات المعتصمات اثناء مظاهرة الالفى خبير، وقتها قرر الزميل خطبة زميلته التى لم يستطع مقاومة شجاعتها وجرأتها فى المطالبة بحقوق الخبراء، كما لم ينسوا مضايقات عم عبدالله البواب، الذى يقوم بقطع المياه عن الشقة التى استأجرها منه الخبراء، لاستعمال دورة مياهها لقضاء حاجتهم واستحمامهم للتخلص من شدة حرارة الجو، مقابل الحصول على خمسة جنيهات من كل خبير. تصنيع فانوسين لرمضان وتعليق زينة على جدران وزارة العدل، كان أحدث ما اتفق على فعله خبراء وزارة العدل، بعدما أوشك النهار على البزوغ، حيث قرر الخبراء أن يكونوا أول من يحتفلون بحلول شهر رمضان، فى إشارة إلى استعدادهم للبقاء حتى هذا الشهر الكريم، فى حال عدم الاستجابة لمطالبهم، قائلين بسخرية «لن نتحمل مشقة البحث عن الإفطار، خاصة بعد ما تردد على مسامعنا قيام مسجد الشامية القريب من الوزارة بإعداد مائدة تحتوى على كل ما لذ وطاب».