كان حلمى دائماً شراء شقة تليق ببنى البشر، بحرية، واسعة، تحيط بها الخضرة من كل جانب، ولا تخجل الشمس من زيارتها يومياً، ونظراً لأن هذا الحلم يحتاج مبالغ كبيرة فقد حرصت منذ تخرجى فى الجامعة على التحويش، أملاً فى إنجاز ما أطمح إليه، لكننى كلما أدخرت مبلغاً من المال، ترتفع أسعار الشقق، فأعاود الادخار، فترتفع الأسعار، وأكرر المحاولة ثانية وثالثة ورابعة، والأسعار تشتعل وتلتهب وتتضاعف، حتى قفزت فى عهد وزير الإسكان الحالى -جزاه الله ما يستحق- لتصل إلى سماء يستحيل على أمثالى بلوغها ولو باعوا هدومهم. أحسست أننى ألهث خلف قطار الوهم، وبالتالى قررت التنازل عن الفكرة مؤقتاً، ووقف التحويش، واستثمار المبلغ المدخر فيما يحافظ على قيمته، وبينما كنت منشغلاً ذات يوم بتقليب بعض الصفحات الإعلانية، استوقفنى إعلان تعلوه صورة الرئيس، وتحتها عنوان كبير: (سيادة الرئيس شكراً، وعدت فأوفيت)، ثم نص إعلانى متوافق مع أمنياتى، عن شقق مساحتها 63 متراً، بمقدم حجز 10 آلاف جنيه، تحت إشراف المجلس القومى لإسكان الشباب، شقق نموذجية رائعة تحيط بها كل مقومات الجمال والاستمتاع، مناظر طبيعية، بحيرات صناعية، أمواج شلالات، حمامات سباحة، نافورات، خضرة أحمدك يارب، أخيراً وجدتها، شقق موجودة فى جنة دنيوية لا ينقصها سوى الغلمان والنسوان الحسناوات لينام المرء ويستيقظ على الماء والخضرة والوجه الحسن، على الفور، اتصلت بالشركة التى تنفذ المشروع، فردت على سيدة، دلت رقة صوتها على جمالها، وبعد أخذ ورد، سألتها عن السعر الإجمالى للشقة وطرق السداد، فوجئت بها تمطرنى بوابل من الأرقام سأقوم بسدادها عند الحجز والتعاقد والتخصيص والتسلم وصلت إلى 180 ألف جنيه، ستدفع منها الدولة 10 آلاف جنيه على سبيل الدعم، لم أحتمل ما أسمع، وأغلقت السماعة فى وجه من تحادثنى، وأنا أقول لنفسى بعصبية: (رضينا بثلاثة وستين متراً، ولم يرض المجلس القومى لإسكان الشباب بنا)، ورحت أجوب الغرفة ذهاباً وإياباً، وأنا أتساءل: مع من يتحدث هؤلاء؟ ولمصلحة من؟ وإذا كان هناك من يملك 180 ألف جنيه يدفعها فى هذه الشقة، فهل هو فى حاجة إلى هذا الدعم؟ وهل يمكن اعتبار من يمتلك هذه المبالغ من محدودى الدخل؟ وإن لم يكن كذلك -وهو ليس كذلك- فمن المسؤول عن هذه المليارات التى يدعم بها هؤلاء؟ ومن يدعم المحتاجين فعلاً؟ من الذى زج بالبرنامج الانتخابى للرئيس وباسم الرئيس وصورته فى هذا النوع من البيزنس الذى يعود بالنفع على أصحابه فقط؟ وأين إشراف المجلس القومى لإسكان الشباب على عمليات البناء وتكلفتها لوضع هوامش ربحية مناسبة؟ وإذا لم يكن له دور فلماذا ينسب للرئيس ولنفسه أعمالاً لا دخل له بها؟ عندما وعد الرئيس مبارك بتوفير نصف مليون وحدة سكنية لمحدودى الدخل بعد انتخابه، لم يكن يقصد أن يكون بناؤها من جيوب الناس، لم يكن يريدها سبوبة لأى من أصدقاء الوزراء، أو دعماً لمقدرة القادر، بل كان يريدها لمستحقيها، وأنا على يقين من أن وزير الإسكان يعلم ذلك جيداً، يعلم أنه منذ وصول الرئيس إلى السلطة حتى تربع المغربى على كرسى الوزارة، كان هناك الكثير من المشروعات التى لبت احتياجات محدودى ومتوسطى الدخل، ولم يجرؤ أحد على الناس مثلما يحدث اليوم، ولم تصل الأسعار فى ارتفاعها مثلما وصلت اليوم، ولم تنهب أراضى المدن الجديدة مثلما تنهب اليوم، ولم تفح رائحة الرشوة من وزارة الإسكان مثلما تفوح اليوم، يعلم معالى وزير الإسكان، أن الشقق التى «يلهط» أرباحها المستثمرون فى كروشهم باسم محدودى الدخل، تم بناؤها على أراض حصلوا عليها بسعر التراب، من خلال وزارة الإسكان، ويعلم وزير الإسكان، وكان من واجب سيادته توفير الضمانات لاستفادة هؤلاء بما لا يضر الآخرين، يعلم معالى وزير الإسكان أن المشروع القومى أهم إنجازات السيد الرئيس، وقد أفاد الكثيرين، وليس من حق أى إنسان النيل منه، وتحويله من مشروع اجتماعى محترم بمرتبة الشرف الأولى إلى مشروع استثمارى للكبار فقط، يعلم معالى وزير الإسكان أن الأسعار التى تحددها شركات الاستثمار العقارى لشقق محدودى الدخل، مبالغ فيها وغير أخلاقية وتحقق أرباحاً تفوق فى قيمتها أضعاف ما تحققه تجارة المخدرات، كانت حجة هؤلاء سابقاً أنهم يحصلون على الطاقة والحديد وجميع مواد البناء بمبالغ خيالية، لكن بعد أزمة الاقتصاد العالمى وهبوط الأسعار وحدوث ركود فعلى فما هو مبررهم للاستمرار فى المبالغة فى وضع هوامش ربحية مذهلة؟ ولماذا يغض وزير الإسكان الطرف عن هذه المبالغات ويتسامح مع المبالغين؟ لقد استطاعت هذه الشركات العقارية أن تجعل من وزارة الإسكان مطية تنتقل بها من مكاسب إلى مكاسب، وتحصد من خلالها ما سيستحيل تحقيقه بعد المغربى الذى لا يعرف سوى سياسة واحدة هى سياسة دعم رجال الأعمال، ولا يريد إلا أن يجعل من بيت المستثمرين عماراً، أما بيوت الناس الغلابة وشققهم فيجب أن تنمو نموها الطبيعى عشوائياً أو فى عمق الصحراء. يا معالى الوزير وعد الرئيس كان يحتاج النية الصادقة للوفاء به، حتى يتمكن أمثالى من بلوغ أمنياتهم المتواضعة، لكن للأسف الشديد بقدر ما كان الرئيس جاداً فى وعده، بقدر ما لم يحرص وزير الإسكان على الوفاء به، وبقدر ما حرص الرئيس طيلة فترته الرئاسية على تقديم ما بوسعه لدعم المسكن، بقدر ما أطلق وزير الإسكان الحبل على غاربه للمستثمرين لالتهام إنجازات الماضى وفتات الحاضر ومقدرات المستقبل، واسألوا شركات الاستثمار العقارى إن كنتم لا تعلمون. [email protected]