كتبت منذ بضعة أشهر- على هذه الصفحات- عن موضوع المسابقات «التليفونوزيونية» التى تقوم بالنصب على الناس علناً، لكن أحداً لم يلتفت إلى هذا الموضوع حتى بادر نائب مجلس الشعب «محمد خليل قويطة» إلى تقديم طلب إحاطة عاجل حول برنامجى «المفتش كرومبو» و«مطبخ بدرية»، وأحاله الدكتور فتحى سرور- رئيس المجلس الموقر- إلى لجنة الثقافة والإعلام لمناقشته. وحقيقة الأمر أن النمو فى عدد وأسلوب تقديم هذه المسابقات- كأداة لجمع الملايين- يرتبط بحالة نعيشها منذ عدة عقود، تحول فيها جدّنا إلى هزل، وهزلنا إلى جدّ. فأما عن أمارات تحول جدّنا إلى هزل فهى كثيرة. وأتصور أننا لسنا بحاجة إلى تكرار الكلام عن الطريقة التى يتعامل بها مجتمعنا- حكومةً وشعبًا- مع ملفات الصحة والتعليم والبحث العلمى، وهو تعامل أساسه الهزل فى قضايا شديدة الجدية تتصل بحياة الإنسان وحاضره ومستقبله. لذلك يبقى أن نتحدث عن الفكرة العكسية التى تحول معها هزلنا إلى جد. فالجدل الدائر حول هذا الموضوع الآن يدل على أن «المفتش كرومبو» تسلطن على عقل الكثير من أبناء هذا الشعب، وأزعج رؤوس نوابه أيضاً، بعد أن أصبحت شخصيات من طراز «كرومبو» و«سرحان ونفيسة» و«عبدالسميع» هى الدليل القاطع والبرهان الساطع على دور التليفزيون فى تحريض المشاهد على التفكير وإعمال عقله!، ودفع طابور طويل عريض من أفراد هذا الشعب إلى استعمال ذكائه من أجل اكتشاف الفاعل فى الجرائم المختلفة التى يعرضها فى «كرومبو»، أو تفسير الطريقة التى «نفدت» بها «نفيسة» من محاولة قتلها على يد «سرحان»، أو معرفة الأغنية التى كان «يجعر» بها «عبدالسميع». وكل من استطاع أن يحل أيًا من هذه الألغاز عليه أن يجرى نحو التليفون، ليتصل برقم معين ويقدم الحل، ويظل يحلم وينتظر الفوز بعدة آلاف من الجنيهات لا تجىء أبداً! فالمواطن المسكين الذى يتعامل بمنتهى «الجدية» مع هذا «الهزل» يحاول أن يركز ذهنه ويشحن بطارية عقله حتى يصل إلى الإجابة ويرتاح إلى مستوى ذكائه، رغم أن الإجابة تكون مكشوفة بالطبع حتى تغرى الملايين بالاتصال طمعًا فى المكسب السريع الذى يدفع المواطن مقابله بضعة جنيهات، هى ثمن المكالمة. هذه الجنيهات المعدودات تتحول إلى ملايين تذهب إلى جيوب المسؤولين عن هذه المسابقات، ووزارة الإعلام، والشركة المصرية للاتصالات. وقد تكون نية المسؤولين عن الإعلام والاتصالات حسنة، وتأتى- مثلما يردد الكثير من مسؤولى اليوم- فى إطار زيادة الموارد الذاتية للمؤسسة، حتى ولو جاءت من خلال المساهمة فى النصب على الناس، وتربيتهم على حب المقامرة، وتسطيح تفكيرهم! فالعائد الذى يدخل من خلال هذه المسابقات يصب فى أرباح المؤسسة، وفى ظل عدم وجود فرق بين الجيب «العام» والجيب «الخاص» تصبح هذه الموارد الذاتية ضرورة. ومع كامل احترامى للنائب «محمد خليل قويطة» لمبادرته بتبنى هذا الموضوع، إلا أن اللافت فى الأمر أن الرجل يعلم- أكثر منا- أن حكومة هذا الحزب هى المسؤولة عن تلك الحالة التى وصلنا إليها. فجميع المسؤولين الحكوميين يعرفون «كرومبو» و«سرحان» و«نفيسة» أكثر مما يعرفون الكثير من علماء هذا البلد ومثقفيه، مثلهم فى ذلك مثل المواطن العادى، لأن المجتمع كله تصالح على أن يتعامل مع "الهزل" بمنتهى «الجد»! إن المسابقات التليفزيونية التى تتم عبر التليفون تعد أكبر عملية نصب منظم تمت فى تاريخ هذا الشعب. لذلك فقضية «كرومبو» وإخوته وأخواته لا يصح أن تناقش تحت قبة مجلس الشعب، بل مجالها المحاكم. فالنصب جريمة يعاقب عليها القانون الذى لا يفرق بين من قام بالنصب، ومن ساعد على القيام به، ومن حرض عليه، ومن يسّر للنصاب الوسائل التى يسرق بها أموال السذج من الناس. وعبارة «القانون لا يحمى المغفلين» التى يمكن أن يحتج بها البعض فى هذا السياق لابد أن نعيد النظر فيها، لأنه إذا لم يكن من واجب القانون ومن يحملون عبء إقراره وتنفيذه حماية المغفلين، فمن- يا ترى- يحمى؟ هل مسؤولية القانون فى بلادنا تتمثل فى حماية «من يستغفلون الناس»؟! لقد تمت الجريمة بشكل محكم للغاية، إذ بدأت باستثمار الملايين فى إنشاء السنترالات، ونشر أبراج المحمول فى كل الاتجاهات، بسرعة فاقت إنشاء المدارس والمستشفيات!. ومن خلال الزواج الشرعى الذى تم بين التليفون الثابت والمحمول من ناحية، والتليفزيون من ناحية أخرى، أصبح «الهاتف» جوهراً أساسياً من جواهر حياة المصريين!، إلى الحد الذى تحولنا معه إلى شعب «مقضيها تليفونات»، بل لقد بلغ الأمر بالبعض حد إطلاق الأسماء على التليفونات، وعلى رنات التليفونات «رنتك باسمك»، وبدأنا نصنّف أجهزة التليفون عقائدياً!. فما معنى أن نصف تليفونًا معينًا بأنه إسلامى فى مقابل تليفون «آخر» على ملة «أخرى» فيما يبدو!. لقد استطاعت الحكومة أن تحول التليفون إلى «بقرة مقدسة» فى حياة المواطن، يدير من خلالها كل شؤونه الدينية والدنيوية، وبالتالى كان من الطبيعى أن تكون هذه الآلة هى الأساس فى أى عملية نصب تتم على الناس. لذلك فقد آن الأوان لأن يتضامن عدد من المواطنين ممن تعرضوا للنصب على يد «كرومبو» وشركاه لمقاضاة كل من وزارة الإعلام والشركة المصرية للاتصالات والقنوات التى تبث وتروج هذه المسابقات. فمناقشة مثل هذا الموضوع تحت قبة مجلس الشعب لم تعد مجدية، لأننى أتصور أن أغلب أعضائه مشغولون مع «ولاد دايرتهم» فى حل الألغاز «التليفونوزيونية»!، وستكون الحكومة مشغولة أيضًا بأمور كثيرة مهمة، يأتى على رأسها الترتيب مع المحور العربى- المدعوم أمريكيًا- من أجل مواجهة إيران، خصوصًا بعد زيارة أوباما للمنطقة. إيران التى سبق أن ذكرتُ- على هذه الصفحات- أنها كانت تحتفل بإطلاق أول قمر صناعى بتكنولوجيا إيرانية، فى الوقت الذى كنا نحتفل فيه بإطلاق قناة «النايل كوميدى».. هل هناك هزل أكثر من ذلك؟!