ألهمنى مقال منشور فى مجلة «التايمز»، وبعده مقال فى «الهيرالد تريبيون» عن مقياس جودة الحياة والسعادة فى الإنسان وعلاقته بالمجتمع وناتج الدخل القومى (GDP). وقد أثار الرئيس الفرنسى ساركوزى الشهر الماضى دهشة الشعب الفرنسى بل والرأى العام أجمع، عندما اقترح أن إضافة عامل السعادة على الإحصائيات القومية للنمو الاقتصادى والاجتماعى لها قيمة خاصة، وقد كان هذا بالفعل أحد وعوده فى حملته الانتخابية فى خلق الثروة، وإعادة النظر فى منظومة الخدمات للشعب واستثمار رأس المال البشرى من أجل جودة الحياة للمواطن الفرنسى، ولكنه أصبح يواجه حالياً صعوبة فى تطبيق هذا الوعد، ويبدو أن كلمات ساركوزى لها مدلولها إذ إن الناتج القومى لم يكن أبدا مقياساً لجودة الحياة للمواطن ولا توجد علاقة بين الناتج القومى والنمو الاقتصادى وازدهار حال المواطنين فى أى دولة حيث إن الناتج القومى هو مقياس لحركة المال فى الدولة، وإذا كان لابد من مقياس لنهضة الأمة فيجب أن يكون التركيز على الصحة، التعليم، المسكن، العدل، الشفافية والمساءلة، فهذا هو ما يهم المواطن العادى بدلاً من الاستفاضة فى وصف الناتج القومى، والتقدم الاقتصادى، والتضخم...إلخ. وعادة ما يصاب السياسيون بارتباك واضح عندما يقرنون جودة الحياة بالنشاط الاقتصادى، وكما سبق أن ذكر الاقتصادى المشهور سيمون كوزنيت، أثناء التدهور والانتكاسة الشديدة التى أصابت الاقتصاد العالمى، أنه لا يمكن استنتاج مدى نهضة وجودة حياة الأمة أو حتى رفاهية الدولة من الناتج القومى، وبعد 75 عاماً من هذا التصريح يبدو أن التنبؤ والفخر بالناتج القومى أصبح فى طى النسيان. وقد سبق أن قال ألان كروجر، أحد كبار الاقتصاديين فى إدارة أوباما للمنظمة العالمية للتعاون والنمو الاقتصادى فى عام 2007، إنه من الطبيعى بعد الحرب الباردة أن نجد مقاييس أخرى غير الناتج القومى فى قياس جودة حياة الشعوب. إن القدرة على التأقلم مع الكوارث الطبيعية، والتلوث النفطى، وحوادث السيارات، والجريمة، والمظاهرات سترفع من مستوى الناتج القومى، بل إن الأعمال الخيرية البسيطة كمساعدة جارك المسن فى اعتلاء السلالم، أو عدم ذهابك للعمل لترى ابنك فى مباراة رياضية، أو المشى أو العدو قد تزيد من الناتج القومى، والذى يعبر عن قيمة المنتج ولكنه قد يغفل الأذى البيئى الذى يحدث بسبب إنتاج هذا المنتج سواء التلوث كانبعاث ثانى أكسيد الكربون، أو استنفاد مخزون المعادن مما يسبب خللاً فى المنظومة البيئية. قد يقيس الناتج القومى القدرة الإنتاجية للنابالم، ومصروفات الرؤوس النووية، والسيارات المصفحة والمدرعات اللازمة لمجابهة المظاهرات وردع الاحتجاجات ولكنه لا يشمل مجال الفن، الشعر، والأدب أو مدى تأثير قوة زواج سعيد، أو ذكاء الحوار والمجادلات الشعبية الديمقراطية، أو تماسك وتكامل الخدمات المختلفة. إن الاعتماد على الناتج القومى يضر الشعوب ضررا بالغاً، والتركيز على النمو الاقتصادى يصيب رجال السياسة بالعمى لتجاهلهم عدة مقاييس أخرى للتقدم والنمو. ويجادل جوزيف ستيجليز، الحائز على جائزة نوبل: إن التمركز حول النمو الاقتصادى أخفى العلامات البادرة للأزمة الاقتصادية المالية الحالية، فالأرباح الوقتية فى صناعة المال قد تزيد من عبء الديون، وكذلك انفجار ديون المساكن قد أدى إلى الزيادة الزائفة فى المقاييس الاقتصادية. وبالرغم من العيوب القائمة فى الناتج القومى فإنه يستحيل استبدالها حيث إنها تعطى أرقاما تستطيع الدول عن طريقها أن تقارن وضعها بدول الجيرة والمنافسين، وسيبحث المؤتمر القادم لمنظمة التعاون والنمو الاقتصادى، الذى سينعقد فى كوريا هذا الشهر مقاييس أخرى لتعريف جودة حال المواطنين، ومن المفارقات التى تثير، حقا، الضحك أن مملكة البوتان الصغيرة التى تقع فى الهيمالايا تقيس الناتج القومى الكلى للسعادة. وللأسف إنه لا توجد أى قوة اقتصادية كبرى قد حذت حذو البوتان. وقد بدأت الصين عام 2004 محاولة استخدام الناتج القومى الأخضر ليعكس تبعات التلوث، وعندما بدأ المسؤولون فى قياس تكاليف الأنهار الملوثة، الغيوم فى الجو، خلل المنظومة البيئية، وناتج المناجم، عندئذ هبطت معدلات النمو، ووصلت فى بعض المناطق إلى الصفر، وبدأت المحاولة فى التدهور حتى أصابها الانهيار التام عام 2007، وتكشف محاولة الصين صعوبة التحول إلى مقاييس شاملة، وهو درس يجب أن نفهمه. إن الأرقام التى يفخر بها رجال الاقتصاد والسياسة ما هى إلا وهم وطريقة أبعد ما تكون عن مصلحة المواطن، ويبدو أن استبدال أرقام الناتج القومى الحقيقية بأرقام أخرى تزيد من سعادة وجودة حياة المواطن سيستغرق وقتاً طويلاً، وحتى يحدث ذلك لا يمكن الاستمرار فى الخداع بأن نقيس تقدم أى دولة بالناتج القومى، ونحن على يقين بأنه خاطئ. ومن الصعوبة تعريف السعادة أو جودة الحياة أو الرضا النفسى على الرغم من أنه توجد الآن مقاييس لهذه الظواهر، وبالأخص بعد التوصل العلمى بأن السعادة معدية، والآن ومع انتشار أنفلونزا الخنازير، أصبح من السهل إعطاء النصائح «اغسل يديك دائماً» «غطِّ فمك عند العطس أو الكحة».. «ارم المناديل الورقية المستعملة»، ولكن فى المستقبل القريب ستتواجد أيضاٍ حملات توعية للسعادة فكن مبتهجاً... فقد تعم الجميع، «لا تأكل كثيراً فهذه لمصلحة الأصدقاء». إن الأمراض المعدية تنتقل من خلال الفيروسات والبكتيريا مثل الأنفلونزا والدرن ولكن ليس فقط الأمراض هى التى تعتبر معدية، فلنأخذ مثلا عدوى التدخين بل أيضاً الإقلاع عن التدخين والسمنة، وكذلك السعادة! وكلها قابلة للعدوى وتفيد نتائج دراسات عديدة فى تأثير النسيج الاجتماعى المكون من الأصدقاء، العائلة، الجيران، الزملاء والمجموعات على سلوك الفرد فى المحاكاة، أو الاكتئاب أو السعادة متواكبا مع سلوك أقرنائه وأصدقائه، فإذا كان أحد أصدقائك أو معارفك سعيدا، فالاحتمال كبير أن تصبح أنت أيضا سعيدا، وإذا كان أقرب الأصدقاء يميل للسمنة، فاحتمال إصابتك بالسمنة كبير، بل لوحظ أنه إذا كان صديق صديقك سعيدا فسينعكس ذلك على صديقك ومن ثم عليك، ونستطيع أن نطبق ذلك على السمنة أو الاكتئاب اللذين ينتشران بطريقة مختلفة، فالسمنة تنتشر بين الأصدقاء من نفس الجنس متقاربى المشاعر، أما السعادة فتنتشر بين الأصدقاء الذين يعيشون بجوار بعضهم البعض، فالجار السعيد فى نفس العمارة يكون له تأثير أكبر من الجار السعيد الذى يقطن على مسافة ثلاثة كيلومترات. يوجد كثير من الدراسات التى تعنى بعدوى السعادة بين الأصدقاء، الزوجات والأزواج، ولكننا نحتاج لدراسات أكثر تعمقاً عن كيفية انتشار السعادة فى المجتمع ككل، وقد تحتاج هذه الدراسات لعدة سنوات، فمثلاً دراسة فرامنجهام للقلب بدأت منذ عام 1948، ومازالت مستمرة حتى الآن من آلاف المواطنين لدراسة مسار أمراض القلب. ونحتاج دراسة، مثل دراسة أمراض القلب، فى موضوع عدوى السعادة التى قد تعطى مؤشرات كبيرة فى كيفية أن يكون الشعب سعيدا، وكيفية العدوى، وأقرب الأمثلة هو: كيفية إصابة معظم الشعوب بالحماس، السعادة، والقلق أثناء مشاهدة فريقهم القومى فى مباراة حاسمه لكرة القدم، وقد لوحظ أن الأصدقاء بمثابة المرآة العاكسة لبعضهم البعض، فالأفراد يأكلون أقل عندما يتناولون طعامهم مع من لا يأكل كثيراً.. وعلى النقيض قد يأكلون أكثر عندما يتناولون طعامهم مع الأصدقاء مقارنة بالغرباء، وكذلك عادة ما نأكل أكثر حين نتواجد مع الأصدقاء عن الأكل منفردين، وتتشابه السعادة، بكل ما ذكرناه عن السمنة، أما ما آلية عدوى السعادة من إنسان لآخر فهى غير معروفة للآن، ولكن كلنا نعلم أن الضحك معدٍ، بل إنه يوجد أكبر عدد من نوادى الضحك فى الهند، وقد يكون الإنسان فى حالة من الكآبة، وسرعان ما يبدأ فى الضحك عندما يجد الكل من حوله فى حالة من الضحك المستمر، والذى بالطبع يسبغ على الصحة مآثر كثيرة، والسعادة لها تأثير واضح على الصحة، أولها تقوية جهاز المناعة، فقد يتأثر معظم أفراد الأسرة بالأنفلونزا ماعدا الشخص السعيد، حيث إن جهاز المناعة يلعب دوراً مهماً فى الوقاية أما إذا أصابه كرب أو ضغوط فنجد أنه سرعان ما يصاب هو الآخر بالأنفلونزا، وقد أجرى بحث عن التطعيم ضد الفيروس الكبدى «ب» واتضح منه أن هؤلاء الراضين السعداء استجابتهم تكون أقوى بكثير من الآخرين. إن اكتشاف أن صحة الفرد تؤثر فى الآخر تجعل المسؤولين عن الدولة يواجهون اهتماماً خاصاً بمحاولة عدم الضغط على الشعب، أو إثارة الخوف أو القلق أو الفزع الذى سيؤثر بالسلب على الجميع، ويضعف الصحة، ويقلل بالتالى من الناتج القومى، وقد ثبت مثلا أن الأم المكتئبة قد تؤثر فى صحة طفلها، حيث تقل كفاءتة الدراسية فى المدرسة ويميل إلى الحزن والانعزال. وأتذكر الدراسة التى أجراها معهد بيو للاستطلاعات عن مقياس الرضا النفسى بين عينة من مواطنى بعض الدول الأفريقية مثل رواندا، غانا، وزامبيا، مقارنة بأوروبا، والولايات المتحدة، وكانت النتيجة مذهلة، حيث ثبت أن درجة الرضا متساوية بالرغم من فارق الناتج القومى ورخاء المجتمعات!! وعادوا لدراسة الأسباب فوجدوا أنها ترجع للنسيج الاجتماعى وعدوى الرضا والسعادة، وقد وجدوا أن الرضا النفسى وجودة الحياة من النسيج الاجتماعى بداية بالأصدقاء، ثم الأسرة ثم الجيران والأهم المجموعات السياسية، الخيرية، الاجتماعية، العلمية والرياضية، وتوحد الفرد معهم، بل إن الانعزال قد يؤدى إلى ضمور فى خلايا المخ، فى فص فرس البحر بالمخ المسؤول عن الذاكرة، التعليم، المزاج والتكيف مع كروب الحياة، والعكس صحيح إذ إن النسيج الاجتماعى الصحى بالأصدقاء أو الزواج.. إلخ قد يؤدى إلى زيادة فى الخلايا العصبية، والموصل العصبى المسؤول عن الإحساس بالسعادة. إن تعاستك وكآبتك لا تؤثر فقط عليك ولكنها تعم على الآخر. إن جودة الحياة والسعادة قد تؤثر فى مجتمعك، ويبدو أن الطب ليس فقط لتحسين صحتك وتخفيف آلامك، ولكنه لصحة كل المجتمع الذى تعيش فيه. لابد إذن من قياس الرضا وجودة الحياة فى المجتمع قبل الإشادة بأرقام الناتج القومى والنمو الاقتصادى الذى لا يهم المواطن، بل إن جودة حياة المواطن، يجب أن تكون هى الأساس والسبب فى انتخاب رجال السياسة والاقتصاد وليس التفاخر بهذه الأرقام، إن أهم ثروة لأى وطن هى رأس المال البشرى أى الإنسان وسعادته. وإذا رأينا مصر الآن والفجوة بين المواطن والحكومة وأرقام التنمية الاقتصادية وعدوى الكآبة الموجودة فى المجتمع لعدم اهتمام القائمين بالسياسة بسعادة المواطن، كما سبق أن نوهت، فإن الأرقام لا تسعد أحداً ولا تضفى جودة للحياة. إن سياسة الحكومة فى إثارة الرعب والفزع والقلق والكآبة على المجتمع المصرى بكيفية تعاملها مع أنفلونزا الخنازير سيكون لها أثر سيئ على سعادة المواطن المصرى، وبمقارنة ما حدث فى مصر والأخطاء المتعددة والاندفاع والتهور فى التصريحات فى وسائل الإعلام بما يحدث فى كل بلاد العالم حيث تسير الأمور بهدوء وسعادة وقبول الأمر الواقع دون هلع وذعر - أؤكد لكم إذا رأيت الابتسامة على وجه المواطن المصرى والسعادة فى تصرفاته سيكون لها أثر العدوى على كل المجتمع بجميع فئاته الغنى منه والفقير، إن الفقر مع العدل يمكن تحمله، ولكن مع الظلم وعدم المساواة يؤدى إلى الحزن، ودعنا نستثمر فى جودة الحياة التى ليست مرادفاً للثروة أو القوة أو السلطة.