■ قليلة إلى حد الندرة تلك الأخبار، التى تبعث على السعادة أو تكون مصدراً للبهجة، ومن هذه الأخبار ما وقع يوم الخميس حيث قرار رئيس الجمهورية بإنشاء فرع لجامعة الإسكندرية فى جنوب السودان، ولا أفهم لماذا تجاهلت الصحف القومية الاهتمام بهذا الخبر..؟ كانت مصر حريصة باستمرار على التواجد فى السودان وقريبة من منابع النيل، ولعلنا نتذكر الرحلات التجارية إلى بلاد «بونت» زمن حتشبسوت، ونعرف كذلك أن الإسلام انتشر فى السودان وفى أفريقيا انطلاقاً من مصر، وفى زمن الدولة الفاطمية أرسلت مصر الدعاة إلى السودان.. وبعث محمد على بجيوشه إلى السودان، ويذكر أهل السودان إلى اليوم أن أول مدرسة حديثة بالسودان أنشأها وتولاها رفاعة رافع الطهطاوى حين غضب عليه الوالى عباس وبعث به إلى السودان.. وفى زمن الخديو إسماعيل بعث بحملة إلى منابع النيل لاكتشافها، رغم أن إسماعيل كان يحلم بأن تكون مصر قطعة من أوروبا.. الملك فاروق نفسه كان شديد الاهتمام بالسودان، ويقدم سكرتيره الخاص د. حسين حسنى فى مذكراته الكثير من المعلومات والأسرار فى هذا الصدد، ولم تكن مصر الجمهورية أقل اهتماماً، لكن الذى حدث أنه مع نهاية السبعينيات اتجهت مصر بقوة نحو الولاياتالمتحدة، ويبدو أن هناك من تصور أننا لكى نكون رأسماليين وليبراليين وعولميين علينا أن نعطى ظهرنا لأفريقيا، ويعلم البعض أن الوزيرة فايزة أبوالنجا حين قررت أن نتجه نحو إثيوبيا سنة 2004 لاستيراد لحوم من هناك، تصدى لها عدد من الوزراء وأحبطوا مشروعها، ومن بين هؤلاء اثنان من الوزراء اقترح الأستاذ هيكل على «المصرى اليوم» أن يترك لهما شؤون البلد فى مرحلته الانتقالية!! فى زماننا هذا، لم يعد ممكناً ولا متاحاً لأسباب ذاتية ودولية إرسال حملات عسكرية، الولاياتالمتحدة نفسها فشلت حين أرسلت جيوشها إلى أفغانستان وإلى العراق، ولذا لم تبق إلا «القوة الناعمة» كما تحدث عنها الفرنسى «جوزيف تايت» منذ التسعينيات، ومن حسن الحظ أن مصر تملك منها الكثير، ولنتذكر أن الدول الاستعمارية، وتحديداً بريطانيا، حين بذلت جهودها لإخراج مصر من السودان، خرج الجيش المصرى، لكن بقيت لمصر قوتها الناعمة، ممثلة فى المدارس والتعليم والصحافة والمثقفين، وبالتأكيد علماء الأزهر الأجلاء.. وقد أخذنا أن نبتعد منذ نهاية السبعينيات، وكان اختياراً خاطئاً، ليس فقط بالمعنى السياسى، بل بالمعنى الوطنى والمصرى، لا سامح الله من فعل ذلك. ومنذ عشرين عاماً بالضبط عقدت ندوة فى القاهرة حول علاقتنا بدول حوض النيل، ومن بين الأوراق التى وزعت علينا كانت هناك ورقة لباحث سودانى يستشهد بنص لكاتب إثيوبى، استعمل الأخير مصطلح «الإمبريالية المصرية» بشأن مياه النيل، وتوقفت يومها عند ذلك المصطلح المؤلم، حاولت أن ألفت الانتباه إليه كثيراً فى محافل عديدة وفى وجود مسؤولين عديدين، كان من بينهم عمرو موسى قبل أن يصبح وزيراً بأسابيع، لكن لا أحد انتبه أو توقف، وكان ما كان، فقد أخلينا موقعنا وسحبنا قوتنا الناعمة، ودخلت إسرائيل إلى أفريقيا وذهبت إيران وذهبت دول أخرى تسعى لأن تملأ الفراغ وتمد يدها وقدمها هناك، وصحونا على بوادر أزمات وكوارث. بهذا المعنى أسعدنى القرار الجمهورى بخصوص فرع جامعة الإسكندرية فى جنوب السودان، فجامعتنا المصرية التى تطل على البحر المتوسط بكل ما يعنيه، تذهب إلى إخواننا فى الجنوب، تؤكد شخصية مصر وعمقها، من الانفتاح شمالاً على عالم المتوسط والامتداد جنوباً إلى قارتنا السمراء، حيث منابع النيل وجذورنا وامتدادنا الطبيعى. لكن هذه الجامعة، أو فرع الجامعة لا ينبغى أن تكون كل شىء، بل هى البداية، وأتصور أن تؤسس مصر سنويا منحة، ولتكن باسم منحة النيل لعدد من الطلاب من إثيوبيا وكينيا وغيرهما من دول حوض النيل، يأتون ليدرسوا سنوياً بجامعة القاهرة أو عين شمس أو الإسكندرية، وقد يذهبون إلى جامعة جنوب الوادى أو أسيوط، حيث يتناسب المناخ معهم وما المانع أن ننشئ جامعة جديدة فى شلاتين؟! وتكون المنحة لطلاب الليسانس والبكالوريوس وللدراسات العليا أيضاً، منحة سنوية لخمسين أو مائة طالب، لن تكلفنا كثيراً، دراسة بالجامعة مجاناً والإقامة بالمدن الجامعية، لكننا نكسب أصدقاء ومحبين على المدى البعيد.. وليت اتحاد الكتاب يبذل اهتماماً أكبر بكتاب أفريقيا، فضلاً عن مؤسسات وزارة الثقافة، قبل عامين خصص الراحل د.ناصر الأنصارى محوراً بالمعرض لمناقشة الأدب والكتاب فى موريتانيا ودعا عدداً من الكتاب الموريتانيين، ولا يتصور أحد مدى السعادة التى غمرتهم لهذا الاهتمام بهم من مصر.. أشياء عديدة فى مقدورنا.. فلا أفهم لماذا لا تهتم مصر بطب المناطق الحارة وتؤسس كلية طب فى حلايب أو فى شلاتين وتفتح أبوابها للطلاب المصريين وتستقبل طلاب أفريقيا من إثيوبيا ومن غيرها.. وأن تتحرك قوافل طبية من هنا إلى دول النيل تعالج المرضى وتدرس وتكتشف هذه المناطق علمياً وطبياً ومن قبل .. إنسانياً.. ثم إن لنا تراثاً ضخماً فى إثيوبيا، هو دور الكنيسة القبطية، التى ظلت حتى سنة 1959 تقوم بترسيم مطران إثيوبيا. ويقتضى الأمر تغيير ذهنية بعض كبار المسؤولين فى مصر، هؤلاء الذين يتصورون أنهم لن يكونوا عولميين ما لم ندر ظهورنا لأفريقيا حيناً ولعالمنا العربى حيناً آخر، ليستوعب هؤلاء جميعاً درس الخديو إسماعيل الذى انفتح تماماً على أوروبا، وجاء بمهندس فرنسى ليجعل من القاهرة الحديثة صورة من باريس وأسس دار الأوبرا، وهو نفسه لم يتوان لحظة عن أفريقيا وعن منابع النيل، ومن يذهب إلى الجمعية الجغرافية يجد الآثار شاهدة عما قام به المصريون فى أفريقيا زمن إسماعيل وبعده وما قدموه هناك، ولنكن صرحاء، نحن نجد الوزير عمر سليمان ومعاونيه يبذلون جهداً جباراً فى الملف الفلسطينى، و يحتملون سخافات رجال «فتح» وصغار قادة «حماس»، لأن مصر تدرك أن فلسطين أول بلد على حدها الشمالى الشرقى ولا ينبغى أن نتركها، وأتصور أن السودان وإثيوبيا ودول منابع النيل لا تقل أهمية، وأتصور.. ب ل أتمنى أن نستحدث موقعاً جديداً فى الدولة المصرية، ليكن ممثلاً شخصياً للرئيس لشؤون منابع النيل، كى يتمكن من تجاوز عقبات البيروقراطية، أو وزيراً يتولى هذا الملف ويكون شاغله وتخصصه، وربما مجلس حكماء يضم عدداً من خبراء النيل وشخصيات على دراية بالملف الأفريقى بل على علاقة جيدة بأفريقيا ونخبها السياسية والاجتماعية، وعندنا بعض الشخصيات تمتلك هذه العلاقات مثل د.بطرس غالى ود.عبدالملك عودة، وغيرهما، ولدينا معهد الدراسات الأفريقية يمكن أن نستفيد بعدد من أساتذته ومتخصصيه، وبالتأكيد لدينا فى الخارجية وفى وزارة الرى - أفضل هذه التسمية - وفى عدد من الجهات الأخرى خبراء يعتد بهم ويجب أن نستمع إليهم. بدأ الاتجاه نحو أفريقيا ودول منابع النيل وليته لا يتوقف، فإذا كان قدر مصر أن تكون أوروبية بانفتاحها على البحر المتوسط، وأن تكون عربية باللغة وبالإسلام، فهى بالنيل أفريقية، وإذا قبلنا مقولة هيرودوت «مصر هبة النيل»، فهذا يعنى أنها هبة أفريقيا، ولا مفر من هذا القدر وتلك المسؤولية.