يذكر رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه " سيرة الرسول وتأسيس الدولة الإسلامية " أنه لما بلغ رسول الله إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر ، قبل الهجرة بسنة ، أسري به من حجر مكة المعظم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهو أول القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، ولا تنعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه ، فقد روى أبو هريرة ( رضي الله عنه ) ، عن النبي r قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى " . ثم عرج به من المسجد الأقصى ، إلى السماوات العلى ، إلى سدرة المنتهى ، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام ، وكما يوضح الدكتور محمد عمارة معنى العبارة صريف الأقلام أي صريرها وصوتها . ولم يرد في أحاديث المعراج الثابتة أن الرسول r عُرج به إلى العرش تلك الليلة ، بل لم يرد في حديث أن النبي r جاوز سدرة المنتهى ، بل انتهى إليها والله أعلم ، وقد سئل الشيخ رضي الدين القزويني ( رحمه الله ) عن وطء النبي r العرش بنعله ، وقول الرب ( جل جلاله ) :لقد شرف العرش بنعلك يا محمد ، هل ثبت ذلك أم لا ؟ فأجاب بما نصه : " أما حديث وطء النبي r العرش فليس بصحيح ، وليس بثابت ، بل وصول النبي r ذروة العرش لم يثبت في خبر صحيح ولا حسن ولا ثابت أصلاً ، وإنما صح في الإخبار انتهاؤه إلبى سدرة المنتهى فحسب ، وأما إلى ما ورائها فلم يصح ، وإنما ورد ذلك في أخبار ضعيفة أو منكرة " . ورحلة الإسراء والمعراج معروفة ومعلومة ، رواها النبي r بنفسه كما رواها البخاري ومسلم ، فقال r : " بينما أنا في الحطيم مضطجع ، إذ أتاني آت ، فسمعته ، يقول : " فشق ما بين هذه إلى هذه " ، يعني من ثغرة نحره إلى عانته، " فاستخرج قلبي ، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة حكمة وإيماناً ، فغسل قلبي ، ثم حشى " ، والحديث فيه اختصار ، والأصل : فاستخرج قلبه ، ثم شق ، واستخرج منه علقة ، وقيل هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسل بماء زمزم . وقد اختلف في تفسير الحكمة فقيل : هي العلم المشتمل على معرفة الله تعالى مع نقاء البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده ، والحكيم من حاز ذلك . وحديث الإسراء حديث يطول في بعض كتب السيرة ، ولكن الذي يعنينا ونحن بصدد هذه الحادثة الفريدة أن كل هذه الأمور يجب الإيمان بها وتصديقها . ولقد اختلف في صلاته r ليلة الإسراء بالأنبياء ؛ قيل قبل عروجه ، وقيل بعده ، والأول استظهره ابن حجر ، وصح الثاني ابن كثير ، واختلف في هل كانت بالفاتحة أو بغيرها ؟ ، كما اختلف في طبيعتها ، فقيل إنها الصلاة اللغوية أي الدعاء والذكر ، وقيل الصلاة المعهودة ، وهذا أصح ، لأنه كما يذكر رفاعة رافع الطهطاوي من أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية قبل اللغوية ، وإنما يحمل على اللغوية إذا تعذر حمله على الشرعية ، ولم يتعذر هنا ، فوجب الحمل على على الصلاة الشرعية . ومن الأمور التي منَّ الله بها على نبيه وعلينا أجمعين فرض الصلاة ، وفرض الله عليه وعلى أمة الإسلام تلك الليلة كل يوم وليلة خمسين صلاة في أول الأمر ، فما زال يراجع حتى صارت خمساً في الفعل ، وخمسين في الأجر وتلك رحمة من الله وفضل كبير . والحكمة من تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أن الرسول r لما عرج به إلى السماء رأى تلك الليلة تعبد الملائكة ، منهم القائم فلا يقعد ، والراكع فلا يسجد ، والساجد فلا يقعد ، فجمع الله تعالى ولأمته تلك العبادات في ركعة واحدة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص ، وفي اختصاص فرضها في السماء ، دون سائر الشرائع فإنها فرضت في الأرض ، التنبيه على مزيتها على غيرها من الفرائض . وكما يذكر السهيلي في التنبيه على فضلها ، حيث لم تفرض إلا في الحضرة المقدسة المطهرة ، ولذلك كانت الطهارة من شأنها ومن شرائطها ، والتنبيه على أنها مناجاة بين العبد وربه عز وجل . جدل حول رحلة الإسراء والمعراج : من الوقائع التي أخذت حظاً عظيماً من الجدل من بين وقائع السيرة النبوية ، حادثة الإسراء والمعراج ، وما إن تلتقط كتاباً واحداً من كتب السيرة النبوية إلا وتجده يفرد صفحات لهذا الجدل ، والذي يمكننا أن نختصره في أمرين فقط ؛ أما الأول فهو إخبار النبي r لقريش ما رأى ، فلما أصبح النبي rقص على قريش ما حدث له وما رآه ، فقال له المطعم بن عدي : " كل أمرك قبل اليوم كان أمما ، أنا أشهد أنك كاذب ، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس ، مصعداَ شهراً ، ومنحدراً شهراً تزعم أنت أنك أتيته في ليلة ! واللات والعزى لا أصدقك ! فقال أبو بكر ( رضي الله عنه) : يا مطعم ، بئس ما قلت لابن أخيك ، جبهته ، وكذبته ، وأنا أشهد أنه صادق " . فقالوا له : " صف لنا يا محمد بيت المقدس ، كيف بناؤه ؟ وكيف هيأته ؟ ؟ وكيف قربه من الجبل " ، وفي القوم من سافر إليه ، فذهب ينعت لهم : " بناؤه كذا ، وهيأته كذا ، وقربه من الجبل كذا ، وسألوه أمارة ، فأخبرهم بالعير ، وأنهم يقدمون الأربعاء . فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت الشمس أن تغرب . فدعا الله فحبس الشمس ، وقيل وقوفها عن السير ، وقيل بطء حركتها ، وكان كما وصف رسول الله r فما زال ينعت لهم حتى التبس عليه النعت ، فكرب كرباً ما كرب مثله ، فجئ بالمسجد الأقصى وهو ينظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال ، فقالوا له : كم للمسجد من باب ؟ ، ولم يكن عدها ، فجعل ينظر إليها ويعدها باباً باباً ، وأبو بكر ( رضي الله عنه ) يقول : " صدقت ، صدقت ، أشهد أنك رسول الله " ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب ! " . ثم قالوا لأبي بكر : أتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس ، وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : " نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة " ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق . الحكمة من الإسراء إلى المسجد الأقصى : يذكر رفاعة رافع الطهطاوي أن الحكمة من تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشاً تعرفه ، فيسألونه عنه ، فيخبرهم بما يعرفونه ، مع علمهم أن رسول الله r لم يدخل بيت المقدس قط ، فتقوم الحجة عليهم ، وكذلك وقع . وإذا كان جدل قريش مع النبي وصاحبه قد انتهى ، فسرعان ما بدأ جدل آخر في كتابات المؤرخين أنفسهم حول كيفية الإسراء ، ولقد اختلف المؤرخون وكتاب السيرة في كيفيته ، وأغلب المفسرين والمؤرخين أجمعوا على أن الإسراء كان بالجسد ، والأقلية هي التي قالت إنما كان بالروح فقط . وهناك رأي ثالث مفاده أن الإسراء كان بالجسد إلى بيت المقدس ، وبالروح من بيت المقدس إلى السماوات السبع ، والصحيح عند الجمهور أن الإسراء والمعراج كانا يقظة لا رؤيا ، والرؤيا هي ما أفاد به كل من حذيفة وعائشة ومعاوية ( رضي الله عنهم) . الأحاديث النبوية الواردة في الإسراء والمعراج : روى البخاري ومسلم بسندهما عن أنس بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللّهِ r قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ (وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ. يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَىٰ طَرْفِهِ) قَالَ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ خَرَجْتُ. فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ. فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ : اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ" (صحيح مسلم ، باب الإسراء برسول الله السموات وفرض الصلوات ، (2/ 170)، برقم 356) . وروى البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وابن حبان بسندهم عن مالك بن صعصعة "أنَّ نبيَّ اللّهِr حدَّثه عن ليلةِ أُسري به قال: بينما أن في الحَطيم وربما قال في الحِجر مضطجعاً، إِذ أتاني آتٍ فقَدَّ قال: وسمعته يقول: فشقَّ ما بين هذه إلى هذه، فقلتُ للجارودِ وهوَ إلى جَنبي: ما يَعني به؟ قال: من ثُغرةِ نحرهٍ إلى شِعرَته وسمعتهُ يقول من قَصَّهِ إلى شِعرته فاستخرج قلبي، ثمَّ أُتيتُ بطَسْتٍ من ذَهبٍ مملوءةٍ إيماناً، فغُسِل قلبي، ثم حُشي، ثمَّ أُعِيدَ، ثمَّ أتيتُ بدابَّة دُونَ البَغلِ وفوقَ الحمار أبيضَ. فقال له الجارودُ: هوَ البُراقُ يا أبا حمزةَ؟ قال أنسٌ: نعم يَضَعُ خَطوَةُ عندَ أقصى طرْفهِ، فحُملتُ عليه، فانطلَقَ بي جِبريلُ حتى أتى السماءَ الدُّنيا فاستفتَح، فقيل: مَن هذا؟ قال: جِبريل. قيلَ: ومَن معك؟ قال: محمد. قيلَ: وقد أرسِلَ إِليه؟ قال: نعم. قيل: مَرحباً به، فنِعمَ المجيءُ جاء. ففَتَح. فلما خَلَصتُ فإذا فيها آدمُ، فقال: هذا أبوك آدمُ، فسلمْ عليه. فسلمتُ عليه، فرَدَّ السلامَ ثم قال: مَرحَباً بالابنِ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صَعِدَ بي حتى أتى السماء الثانيةَ فاستفتحَ. قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً بهِ، فنعمَ المجيء جاء. ففَتَح. فلما خَلَصْتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلمْ عليهما، فسلمتُ، فردّا، ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثمَّ صعد بي إلى السماءِ الثالثة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسلَ إليهِ؟ قال: نعم. قيل: مرَحباً به فنعمَ المجيء جاء. ففُتح، فلما خَلصتُ إذا يوسُف، قال: هذا يوسُف فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثمَّ قال: مَرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح، ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء الرابعة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَن معك؟ قال: محمد. قيل: أوَقد أرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعمَ المجيء جاء. ففتح. فلما خلصتُ فإذا إدريس، قال: هذا إدريسُ فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مَرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء الخامسة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد أُرسلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعمَ المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا هارونُ. قال: هذا هارونُ فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء السادسة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: من معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثمَّ قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. فلما تجاوَزتُ بكى. قيلَ له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لأنَّ غُلاماً بُعثَ بعدي يدخُلُ الجنةِ من أمَّتهِ أكثرُ ممن يدخُلها من أمَّتي. ثم صَعِدَ بي إلى السماء السابعة، فاستَفتحَ جبريل، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعثَ إليه؟ قال: نعم. قال: مرحباً به، ونعمَ المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلمْ عليه. قال فسلمتُ عليه، فردَّ السلام، ثمَّ قال: مرحباً بالابنِ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم رُفعَت لي سِدرةُ المنتهى، فإذا نَبقُها مثلُ قِلالِ هَجَر، وإذا وَرقُها مثلُ آذانِ الفِيَلة. قال: هذه سِدرة المنتهى، وإذا أربعةُ أنهارٍ: نهران باطنان ونهرانِ ظاهران. فقلتُ: ما هذانِ يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهرانِ في الجنة، وأما الظاهرانِ فالنيلُ والفُرات. ثم رُفعَ لي البيتُ المعمور. ثمَّ أُتيتُ بإناءٍ من خَمر وإناءٍ من لَبَن وإناءٍ من عِسل، فأخذتُ اللبَن، فقال: هيَ الفِطرةُ التي أنت عليها وأمَّتُك. ثمَّ فُرِضت عليَّ الصلاةُ خمسينَ صلاةً كلَّ يوم، فرجَعْتُ فمرَرْتُ على موسى، فقال: بما أمِرت؟ قال: أمِرتُ بخمسينَ صلاةً كل يوم، قال: إن أمتكَ لا تَستطيعُ خمسينَ صلاةً كل يوم، وإني واللّه قد جربتُ الناسَ قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجعْ إلى ربِّك فاسأَلْهُ التخفيفَ لأمتك، فرجَعت، فوضعَ عني عَشراً، فرجَعتُ إلى موسى فقال مثله. فرجعتُ فوَضع عني عَشراً، فرجعتُ إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوَضَعَ عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعتُ فأمِرتُ بعَشرِ صلوات كلَّ يوم، فرجعتُ فقال مثله. فرجعتُ فأمِرتُ بخمس صلواتٍ كل يوم، فرجعتُ إلى موسى فقال: بما أمِرتَ؟ قلت: أمِرتُ بخمسِ صلوات كل يوم. قال: إن أمتكَ لا تستطيعُ خمسَ صلواتٍ كل يوم، وإني قد جَريتُ الناسَ قبلك، وعالجتُ بني إسرائيلَ أشد المعالجة، فارجعْ إلى ربِّكَ فاسألهُ التخفيف لأمتك. قال: سألتُ رَبي حتى استحيَيتُ، ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوَزت نادَى مُنادٍ: أمضَيتُ فريضتي، وخَفَّفت عن عبادي».( صحيح البخاري ، باب المعراج ، (7/600)، برقم 3800).