* مع المسلسل نخوض رحلة جديدة متكررة مع شاب من شبابنا الذي أضاعه النظام السابق وسحقه وأحبط طموحاته وأحلامه البسيطة في التحقق والعمل الشريف * يجسد النبوي شخصية "جابر الخواجة" وهو شاب سكندري من أصول شعبية بسيطة لكنه كان يمتلك قلبا جريئا ونفسا أبيها تدفعه للحرص علي كرامته والإصرار علي المطالبة بحقوقه بل وحقوق كل من يحيط به من مظلومين في الحلقات الأولي من مسلسل «ابن موت» لن تلمح هذا التأثر الحميد في معظم جوانبه بالدراما التركية. فالبيئة الشعبية والأجواء التقليدية للمسلسل المصري هي الغالبة وإن كانت بالمذاق الدرامي المتميز للكاتب مجدي صابر واللغة التليفزيونية المشبعة بأسلوب السينما للمتمكن سمير سيف. لكن مع مرور الوقت وتقدم الأحداث والحلقات سوف تكتشف الملامح الميلودرامية المعتادة للمسلسل التركي والتي تتمثل أساسا في هذا الحرص علي رصد مناطق الشجن والألم والعاطفة الجامحة. أما علي مستوي الصورة فينعكس التأثر التركي عبر تنوع البيئات التي يختلط بها البطل داخل مصر وخارجها والتي تنتقل إليها الكاميرا عن الرغبة في إشباع المشاهد بصريا ومعرفيا بأجواء متميزة فيما تضمه من ديكورات وإكسسوارات وملابس ووجوه وأماكن مفتوحة. مع مسلسل «ابن موت» نخوض رحلة جديدة متكررة مع شاب من شبابنا الذي أضاعه النظام السابق وسحقه واحبط طموحاته وأحلامه البسيطة في التحقق والعمل الشريف. فالبطل جابر وهو اسم له دلالاته اجبر إجبارا علي السير في طريق البلطجة والإجرام. إنه الشاب الذي يؤدي دوره باقتدار خالد النبوي كنموذج لآلاف بل وملايين من شبابنا الذين يمتلكون الطاقة والذكاء والموهبة والذين يتميز معدنهم بأصالة وشهامة ونخوة فطرية. لكن كل هذه الملامح والطاقات الإيجابية والصفات الأخلاقية الحميدة تطمسها ظروف القهر والعوز ويصيب صاحبها اليأس والإحباط والعجز مع طول الإنتظار وتبدد الفرص والشعور بالظلم الاجتماعي والفارق الطبقي الرهيب وسيطرة فلسفة التوريث وفكره علي المجتمع وفرضه بالقوة من قبل ذوي السلطة والقدرة. طاقات ضائعة وهكذا تتفرع الطاقات في اتجاهات أخري ويوظف الذكاء في خدمة مشروعات شخصية أنانية وتنطمس الصفات الجميلة الأصيلة ويتحول مشروع المواطن الصالح النابغ الطموح إلي بلطجي سبيله الوحيد للترقي هو السير في عالم الإجرام وقمة طموحة أن يصبح زعيم عصابة كبير محليا أو إحدي قيادات المافيا عالميا حين تجبره الظروف علي الخروج عن محيطه المحلي الإجرامي. هذا هو ما فعله النظام السابق بهؤلاء الشباب الذين كانوا يسقطون يوميا ماديا ومعنويا مع كل موجة غلاء تهبط بشرائح منهم ومن أسرهم من طبقة المستورين بالكاد إلي المحتاجين لأبسط الحقوق والأشياء. ومهما كانت محاولات الفرد في الإستمساك بالحياة المشروعة تظل الظروف أقوي وأصعب في ظل نظام فاسد غابت عنه أبسط مظاهر العدل وبلا أي مساحة من الرحمة للفقراء والضعفاء ومن لا ظهر لهم ويفرض قانون القوة علي الجميع. وهو ما تعكسه جملة جابر الملخصة المعبرة" "كل ما أحاول أبقي محترم في بلدي مش نافع، لازم يشدوني لجابر الخواجة المنحرف". يجسد النبوي في المسلسل شخصية "جابر الخواجة" وهو شاب سكندري من أصول شعبية بسيطة. لكنه كان يمتلك قلبا جريئا ونفسا أبيها تدفعه للحرص علي كرامته والإصرار علي المطالبة بحقوقه بل وحقوق كل من يحيط به من مظلومين. وعندما يعجز الحوار والمنطق والقانون وكل الأساليب المشروعة عن الإتيان بحقه لا يجد أمامه سبيلا سوي اللجوء للخداع والعنف والجريمة وأساليب البلطجة. وهذا علي الرغم من أنه شخص متعلم وذكي ومحترم كانت آماله المتواضعة كأمثاله تتلخص في حلم بسيط بحياة كريمة مستقرة يحققها عبر قطعة أرض صغيرة يعمل علي إستصلاحها كمهندس زراعي. إجبار جابر يجيد مجدي صابر رسم شخصية "جابر" بكل أبعادها وجوانبها. ويضيف خالد النبوي بحضوره وأدائه الهادئ المتقدم في أن يمنحها مزيدا من المصداقية. يستطيع النبوي أن يلعب علي منطقة رمادية في الأداء يتميز بها دائما وتمنحه أسلوبية خاصة وتبتعد به تماما عن الطريقة الميلودرامية التركية الغالبة والمسيطرة علي أداء معظم زملائه في العمل بل وفي باقي الأعمال التي نشاهدها علي شاشة رمضان. يحرص خالد النبوي علي تجنب أكليشيهات التمثيل والطرق المبتذلة في لفت النظر وجذب المشاهد. لكنه ينجح بقوة في جذبه عبر اختلافه وابتعاده عن كل ما هو تقليدي ومألوف وفي التخلي عن مظاهر الوسامة والشياكة وفي حرصه علي تحقيق الإنضباط الإنفعالي الشديد. وهو يوظف بمهارة فائقة لحظات الصمت البليغ ورد الفعل المحسوب والصوت الهامس ونفثة الدخان في توقيتها. وهو يستطيع بخبرة ودربة عبر هذا الأداء الهادئ أن يعكس ما يعتمل في نفس الشخصية من آلام وأحزان وبراكين من الغضب والعنف المكبوت. لكن هذا العنف قد يجد له متنفسا في مشاهد الحركة التي يرسمها بتمكن سمير سيف بخبرته الطويلة في هذا المجال. والعنف هنا في الغالب مبرر دراميا ولا تبدو به أي شبهة افتعال فهو نابع من قلب الشخصية وروحها ومن طبيعة الموضوع والظرف ومن التسلسل المنطقي للأحداث الذي من الواضح أنه يتحقق عبر نص سلس ومونتاج محكم. اختيار الممثل وعلي النقيض تماما يأتي الاختيار بعيدا عن التوفيق بالنسبة لعلا غانم بصفاتها الشكلية والأدائية في دور الفتاة ابنة الحارة الطموحة ذات التطلعات. فبداية يصعب بأي حال تصديق أن علا غانم فتاة وليست امرأة كما أن خبرة المشاهد معها ونوعية الأدوار التي تقدمها تفضح شخصيتها من البداية وتطيح بأي جهود درامية أو فنية من أجل تعليق المشاهد أو تأجيل أحكامه. وهي مأساة لا تبررها شروط التوزيع ولا البيع ولا أي شروط يمكن أن يقبلها مخرج بمكانة وتاريخ سمير سيف. ونفس الشيء ينطبق علي محمد نجاتي الذي عجز عن الإمساك بالشخصية وتعامل معها بسطحية مع أنها كانت فرصة له في التعبير عن نموذج واقعي جدا من ورثة المال والسطوة. والمشكلة أن أخطاء الكاست أو اختيار الممثلين كفيلة بالإطاحة بمصداقية العمل في جوانب كثيرة وتفاصيل وأحداث ينبغي أن يتفاعل معها المشاهد. ومنها علي سبيل المثال مشهد محاولة اغتصاب البطلة من قبل اثنين من البلطجية والذي يختلف تأثيره تماما وفقا لتعاطفك مع الشخصية وتصديقك لها. كما أن المواجهات بين جابر والوريث تبدو ضعيفة وفاترة ومصطنعة علي الطريقة التركية وليست علي مستوي ما تعكسه من دلالات درامية وأبعاد رمزية. لكن المخرج الكبير يعتقد دائما أنه قادر علي إقناع المشاهد بأي شيء بفضل مهاراته. وهي مسألة ليست مضمونة في الحقيقة حتي في حالة مخرج «ابن موت» بما يمتلكه من مهارات عديدة ومتميزة جدا. نكهة سينمائية فالنكهة السينمائية التي يضفيها سمير سيف تمنح العمل أسلوبية بصرية خاصة. ومع لقطاته وزواياه وانتقالاته المختارة بعناية نعود الي جماليات اللقطة السينمائية علي الطريقة الكلاسيكية وبالأسلوب المنهجي الأكاديمي في الإنتقال من الثابت إلي المتحرك والعكس وفي التواصل البصري الناعم من اللقطات الأفقية الي الرأسية ومن الكادر الواسع الي الضيق ومن اللقطات الطويلة إلي القصيرة ومن الحركة الهادئة الي المنقضة ومن الكاميرا الثابتة الي الشاريوه واسع الافق وعميق المجال. وفي الانتقال من الفقر المدقع الي الثراء الفاحش ومن الصورة الكئيبة الحالكة الي الصورة المتألقة المبهرة المتبهرجة ومن الديكورات الفقيرة الكئيبة الي الاماكن التي تنضح بالعز والفخامة. وحيث تتوازي حركة الكاميرا وإيقاع اللقطة مع حركة الأحداث وإيقاع الدراما. بل وتمتد دقة سمير سيف في اختياراته لمواضع الموسيقي التصويرية ومساحاتها ونغماتها التي تأتي لتضفي مزيدا من الثقل والتأثير للمواقف الدرامية والانفعالات الشخصية. يستفيد المسلسل أصلا من الهامش الرقابي الذي يزداد اتساعا. فأيا كان ما نعانيه من تبعات سلبية للثورة اليوم والتي تمنح الفرصة للفلول في السخرية والشماتة والمزايدة فإننا بل شك نعيش عصرا من المصارحة أتاح لنا أن نري صورا حقيقية من واقعنا بلا تجميل أو تخفيف أو تزييف. وإذا كانت قصص البلطجية وحكايات الهجرة غير المشروعة سبق للدراما المصرية أن عالجتها أو تناولتها كثيرا إلا أننا لم نتعرض لشخصية البلطجي بهذا العمق وهذا التعامل مع الظاهرة كنتاج لواقع اجتماعي وسياسي بهذا الوضوح وهذه الجرأة. كما أن الهجرة غير الشرعية لم تبدو لنا أبدا في صورتها الحقيقية كنتاج لواقع مأساوي طارد وكصورة لوطن يضن علي أبنائه بأي حقوق ولا يمنح الحق وإمكانيات البقاء إلا للورثة أبناء كبار المسئولين في عهد تخلو فيه جميعا عن مسئولياتهم ولم يفكروا إلا في مصالحهم الضيقة وأسرهم الصغيرة كسيدهم الأكبر المخلوع والملقي مع صفوة أتباعه في غياهب السجون. سقف الرقابة وهكذا يأتي هذا المسلسل في زمن ما بعد الثورة الذي منح الكاتب مزيدا من الحرية والجرأة في معالجة الواقع وبعيدا عن المواءمات ومحاولات تجنب المشكلات الرقابية بإظهار الراغبين في الهجرة وكأنهم مجرد شباب متعجلين للصعود وطماعين للمال أو بتهميش الظرف السياسي والإقتصادي الصعب الذي يدفعهم لخوض المخاطر والأهوال لمجرد الخروج من أرض الوطن وكأنه هروب من جحيم صنعه مبارك وأسرته وزبانيته وحاشيته الفاسده. ويظل مسلسل «ابن موت» ورغما عن أي تحفظات من أفضل ما قدمته الدراما علي شاشة رمضان ومن أكثرها صدقا وواقعية حتي ولو طغت عليه أحيانا طبائع الشكلانية والرغبة في الإثارة والجذب بعيدا عن الموضوع والمضمون القوي الذي يحمله. وكلها في الغالب أمور نابعة من التأثر بالدراما التركية وعن رغبة جارفة في الإقتراب من نموذجها بكل ما حققه من نجاح ومن قدرة علي التأثير علي المشاهد المصري والعربي بل وصناع الفن أيضا.