أهم ما في فيلم «عصام الشماع» «الفاجومي» أنه ينطلق من رؤية محددة رؤية لعالم يتغير ورجل يقف في محوره يشهد عليه ويتغير معه. لا يهم إن كان الفيلم يروي السيرة الذاتية لشاعر معروف مازال حيا يرزق قدر ما هو شهادة نابضة بالحياة عن رجل كان يعيش حياته شأن ملايين من الناس غيره.. يعشق الحياة الحلوة والنساء والمخدر ولا يأبه بتزوير أوراق التموين لكي يكسب «قرشين» يواجه بهما حياته البائسة التي لا أفق محدد لها، إنه يقبل السجن نتيجة لانحرافه وهناك من الجدران الصلبة يكتشف من خلال مسجونين سياسيين معني آخر للحياة يختلف تماما عن المعني الذي كان يبني حياته عليه.. وهذا الاكتشاف الخارجي يعود إلي اكتشاف أكثر قيمة وأشد وهجا في داخله اكتشاف طاقته الخلاقة علي أن يعبر عن نفسه «شعرا» بعفوية مدهشة ومن خلال قلب ينبض بالألم .. وخيال جامح لا تحده حدود. هذه الولادة العسيرة الخلاقة عرف الفيلم كيف يعبر عنها وأجاد الممثل الأول خالد الصاوي الدخول إلي أعماقها وتقديمها لنا خفقة خفقة كخفقات قلب كان يحيا في الظلام ثم انارته شمس ساطعة رسمت أمامه معالم الطريق. إيقاع موسيقي الفيلم يروي من خلال إيقاع موسيقي حاذق هذا التحول المدهش ومن خلال شخصيات تظهر وتختفي ولكنها تترك آثارا كوشم النار علي جسد بطلنا وضميره وعواطفه. الفاجومي .. هي قصة شاعر رفع العصابة السوداء عن عينيه وواجه ببطولة وجرأة نور الشمس الساطع غير مبال بالحروق والجراح والألم ولكنه أيضا قصة صداقة رائعة مدهشة .. خلاقة تربط بين شاعر ملهم وموسيقار أعمي .. انتجت صداقتهما وعلاقتهما الروحية «آثارا» هزت ضمير الشارع المصري وخلقت تيارا ساخنا ملتهبا جمع حوله الشباب الغاضب والجموع الثائرة والأمل الذي كاد يختنق .. لولا فسحة الهواء النقي التي انقذته من غياهب الظلمة.. وقادته نحو معرفة نفسه واتجاهه وأهدافه. صداقة هي أشبه ما تكون بعاطفة جامعة تصل إلي حدود وآفاق شديدة الصفاء والنقاء .. وتضع هاتين الشخصيتين الفريدتين في ميزان خاص بهما يرفعهما عن الواقع القاسي الذي يعيشان به.. ليضعهما في مكانة سامية لا يشعر بها إلا من عاشها حقا وعرف تعاريجها وكبواتها وانطلاقها الرائع المتوحش. وأقف هنا أمام مشهد لقاء الشاعر مع موسيقاره في مكتب صحفي صديق بعد جفاء استمر شهورا طويلة ضاع فيها كل منهما عن نفسه وتاه عن طريقه. رقة وشاعرية في هذا المشهد الذي يقطر حنانا ورقة وشاعرية عرف المخرج كيف يعبر عنها تماما كما عبر عنها بمشهد الشجار علي كورنيش النيل حيث مزق الشاعر «الشيك» الذي أرادت «الحكومة» أن تشتريه به وحيث ذهب كل منهما في طريق. مشهدان يصوران نوعية العلاقة وحجمها وطبيعتها ويلقي أنوارا باهرة علي الشخصيتين اللتين تعيشانها. وهناك هذا المشهد الأخير الذي يقطر حنانا ويفوح منه غموض عاطفي مشبوب عندما يعلن الشاعر رغبته في الزواج بابنة الطبقة الراقية ويحتفل الجميع بهذا الحدث الفريد إلا الموسيقار الأعمي الذي تخرج كلماته من قلب يقطر دماً وتبدو كل كلمة منها كحمامات بيضاء تنطلق في سماء زرقاء واسعة وممتدة الصفاء. «الفاجومي» هي قصة ولادة الوعي وقصة شاعر يخرج من ايقونة الألم ليطلق صرخة حلوة تصل إلي عنان السماء.. وهي قصة أمة تعيش أزماتها وحروبها وانتصاراتها وهزيمتها وقصة شعب قرر أن يمزق الأقنعة وأن يبدو وجهه الجميل ناصعا قويا متكبرا أمام شمس تشرق وشمس تغيب. حركات هادئة في هذا السيناريو المتشعب والشديد الذكاء الذي كتبه المخرج مستعينا بذكريات كتبها الشاعر عن نفسه يتبع الكاتب النظام الموسيقي في السمفونيات فيبدأ بالحركات الهادئة ثم يتلوها بحركات متتابعة تصور الجوانب الحياتية من حياة هذا الرجل الذي يروي لنا حياته .. فهو ليس الشاعر الذي خرج من الزجاجة عملاقا.. وهو ليس المناضل السياسي الذي رفع العصابة السوداء عن عينيه ولكنه أيضا العاشق الحقيقي للحياة من خلال نساء ثلاث مررن في حياته وتركن آثارهن علي قلبه وجسده وضميره... مضيفات إلي إشعاعه السياسي اشعاعا عاطفيا من نوع شديد الخصوصية. إنهن .. هذه السيدة الأرملة أو المطلقة التي تؤجر غرفتها للموسيقار الأعمي والتي ترتبط بالشاعر بعلاقة قوامها بادئ الأمر الجسد لتنقلب بعد ذلك إلي عاطفة هادئة من نوع خاص قوامها الاعجاب الحقيقي بالإنسان والرجل الذي استطاع هو أيضا أن يغير حياتها وأن يقلب نظرتها إلي الأمور وأن يجعل منها «إنسانة أخري»، ولقد أدت جيهان فاضل هذا الدور بإتقان مدهش وبعفوية وصدق حقيقيين ونجحت في أن تعبر عن تطور عواطفها وعن نمو شخصيتها وإنسانيتها بصورة بديعة تجعل منها واحدة من ممثلاتنا الكبار اللاتي يمكننا أن نعتمد عليهن بعد الآن في كثير من الأدوار المعقدة والشائكة والتي تحتاج إلي مهارة استثنائية وحضور قوي طاغ. وهناك أيضا هذه الصحفية الملتزمة التي يرتبط الشاعر معها بزواج قصير.. والتي تعيش معه أزماته السياسية .. ولكنها تنفصل عنه عندما يشتد العدوان عليه وعليها .. حفاظا علي تربية ابنتها والمحافظة علي سلامتها. ثم تلك السيدة الارستقراطية التي تواجه اسرتها ومجتمعها كي ترتبط بالشاعر متحدية كل التقاليد وكل الآراء لتقف معه في مهب الريح تقاسمه آلامه وأفراحه وتعتز بصلتها به وكأن هذه الصلة تاج من النار تضعه فوق رأسها الجميل. علاقات نسائية الفيلم أجاد رسم هذه العلاقات النسائية دون أن تطغي هذه العلاقات علي الرؤية السياسية الناضجة التي يطرحها الفيلم بقوة وتركيز وخبرة. وكما نجح الفيلم في رسم شخصيات النساء نجح أيضا في رسم معالم كل الشخصيات التي أحاطت بمسيرة الشاعر الموسيقي كما أجاد المخرج في اختيار الممثلين الذين أدوا هذه الأدوار فجعل من كل واحد منهم بطلا حتي لو لم يتجاوز دوره مشهدين أو ثلاثة وأخص بشكل خاص زكي فطين عبدالوهاب الذي أدهشنا بقوة شخصيته والحزن الكامن في عينيه ورجولته وكبريائه في دور الرسام «حجازي» ومحمود قابيل الذي برع في ثلاثة مشاهد فقط في أن يرسم شخصية السياسي الذي يتلاعب بمصير الآخرين ثم يتلاعب القدر بمصيره. دور كبير لفنان كبير وأخيرا وليس آخرا .. تامر هجرس في دور صغير جعله بموهبته وألقه دورا خطيرا لنموذج سياسي مكروه يبيع السم بالعسل.. ثم كل هؤلاء الفتية والشباب والشابات الذين انطلقوا كورود الجناين يملأوا سماء الفيلم عطرا وعفوية وموهبة. يبقي أن نتوقف أمام الدورين الرئيسيين دور الشاعر كما أداه خالد الصاوي بتقنية فنية عالية وبأداء نابض بالحياة والحيوية يخفي حزنا عميقا وجرحا لا يندمج، لقد عبر عن تطور الشخصية وهزيمتها وصراعها وخروجها المنتصر من الشرنقة. شاهد علي العصر لقد كان «الشاعر» الثائر بمعناه الحقيقي الشاهد علي عصره والذي يدفع غالبا ثمن شهادته ولا أبالي إذا كان هناك بعد في الصورة عن شخصية الشاعر الحقيقية لأني لا أريد أن أري في فيلم «عصام الشماع» فيلما عن الشاعر «أحمد فؤاد نجم» قدر ما أريد أن أري فيلما عن شاعر ووطن وقضية. ولقد أحسن عصام الشماع فعلا في أن يجعلنا نبتعد عن الشبه الجسدي لنصل إلي المضمون الروحي والسياسي الذي يعكسه الفيلم ويعكس رؤية صاحبه. صلاح عبدالله في دور الموسيقار الأعمي يضيف سهما آخر إلي سهام أدائه العبقري الملهم، ولا يضيف إلينا شيئا لم نكن نعرفه عن موهبته وقدرته وجمال أدائه. المفاجأة الحقيقية في فيلم «الفاجومي» هي عصام الشماع نفسه فهذا المخرج الذي لم يعودنا أن نراه مخرجا سينمائيا قادرا ينطلق فجأة كالمارد أمامنا في فيلم شديد الصعوبة وشديد الرقة معا طافح بالمعاني .. غني بالشخصيات كثيف في جزئياته قوي التعبير فيما يريد أن يوصله إلينا. لقد وجد عصام الشماع نفسه في الفاجومي كما وجد الفاجومي نفسه واستطاع أن يحطم قضبان سجنه ويخرج إلينا متكبرا عملاقا واثق الخطوة يمشي ملكا. وكتب من خلال قلمه الذي يحلو لي أن اطلق عليه «فيلمه الأول» عنوانا مثيرا لطريق فني طويل هو وحده قادر علي أن يسير ويستمر فيه حتي النهاية.