كتبت أماني العيوطي * كان الله في عون المستشار أحمد فهمي رفعت قاضي محاكمة مبارك التاريخية، الذي عُهد إليه بإرساء حجر أساس العدل والديمقراطية في مصر بعد ثورة ال 25 يناير، لعلها في يد أمينة، فقد خاض معركة الريادة من قبله والده، أحد رواد مهندسي السد العالي. المستشار أحمد رفعت قاضي القضايا الشائكة، ذي السبعين ربيعًا، المعروف عنه الصلابة، الصرامة، الحزم، ضليع القانون، صاحب تاريخ طويل من الأحكام القاسية، المشددة، الرادعة، المتخصص في كبرى قضايا الرأي العام، وتحديدًا الشائكة منها، القضايا التي تورط فيها أسماء معروفة، على سبيل المثال قضايا متعلقة بالأموال العامة: قضية بنك مصر إكستريور وقضية الآثار المهربة، والتي أصدر بشأنهما أحكام مشددة كالمؤبد، بينما جاء حكمه على العكس تمامًا في إحدى القضايا الدقيقة الحساسة، حيث أصدر حكم بإخلاء سبيل عدد كبير من متهمي قضية (202 حصر أمن دولة عليا) والتي اتُهم فيها قيادات من الإخوان، لعدم ثبوت أية أدلة على المتهمين، كان حكمًا جريئًا بالرغم من سجل تاريخ الجماعة، حكمًا جسورًا في قلب توجهات مُشددة ومُضادة ليست فقط من الحكومة، بل من العالم أجمع. ما أظن انه يؤكد حيادية المستشار وينفي عنه أية تأثر بالمحيط أو الضغوط أو سجل التاريخ، والثابت أن المستشار رفعت لا توجد لديه أية ميول سياسية. وتزامنًا مع محاكمة مبارك في الثالث من رمضان طرحت معظم الصحف الالكترونية استفتاء على القراء عن رأيهم في إدانة مبارك. عند مقارنة الاستطلاعات نجدها تتقارب نتائجها في الصحف الحيادية. "الجريدة" طرحت سؤالًا على قراءها الذين يمثلون على الأرجح عينة جزافية، معتدلة، عشوائية من مختلف أطياف المجتمع، كان السؤال كالتالي: "في حال صدور حكم ببراءة مبارك من التهم الموجهة إليه، كيف سيكون موقفك؟" انقسم المشاركون في الرأي بالنصف تقريبًا بين رافض أو متقبل لحكم البراءة، بفارق 0.1% لصالح الرافضين. صوّت النصف الرافض بنسبة تصل إلى 93 % بأن "سوف أرفض الحكم وأتظاهر ضده وأطالب بإعادة المحاكمة" بينما اختار نسبة 7% فقط من الرافضين إجابة "سوف أرفض الحكم". أما المؤيدين لحكم البراءة فمازالت نسبة 70% تؤكد أن مبارك مُدان ضمنيًا فاختار المشتركين إجابة "سوف أحترم حكم القضاء، لكن سأبرره بنجاح مبارك في إخفاء أدلة تدينه"، بينما قرر نسبة 30% من مؤيدي البراءة إجابة "سوف أحترم حكم القضاء، وأثق ببراءة مبارك". نستخلص من ذلك أن حوالي 15% فقط من المشتركين هم الذين يثقون في حكم قاضي المحاكمة سواء بالبراءة أو الإدانة! وذلك لأن نسبة 85% من إجمالي المشتركين قررت وحسمت وفرضت حكم الإدانة مُسبقًا بغض النظر عن احترام حكم وعدل المحكمة ... نسبة خطيرة ومُقلقة بالفعل، ولكنها في الواقع صحيحة، كيف لا، وقد تسارع الكثير بتعليقاتهم التي سابقت الهتافات الشعبية التي تعالت بدورها على عناوين الإعلام الحماسة لرؤية مبارك في قفص الاتهام أنقل بعضها: "مبارك في القفص أفضل هدية" – "مبارك يتمارض ويجب إيداعه مستشفى طرة مثل أي متهم" – "محاولة فاشلة لاستدارة عطف الشعب" – "الحمد لله الذي أعطانا العمر لنري واحدة من آياته الكبرى بالنسبة لنا" – " مبارك ظهر في المحكمة بشعر مصبوغ وحالته الصحية لم تستدعِ السرير" – "فلا نامت أعين الرؤساء" – "نحن نصنع التاريخ". بينما اقتادت نسبة كبيرة جدًا من مستخدمي الإنترنت على صفحاتها بقول الشيخ شعراوي رحمة الله عليه: "حينما ترى المجرم يُحاَكم لا تنظر إليه وتشفق عليه بل انظر إلى جريمته تذكروا قول رسول الله "إنما أهلك الذين من قبلكم، إذا سرق منهم الشريف تركوه، وإذا سرقوا فيهم الضعيف أقاموا عليه الحق، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". أما بالنسبة للصحف الأوربية فجاءت معظم تعليقات عناوينها الرئيسية يشمل تأكيد تعثر العملية الديمقراطية بينما كُتبت في طيات الموضوع جملة صغيرة تحذر "مغبة الانتقام"، بنفس أسلوب وحجم تعليقات الصحف الأجنبية عندما يحذرون من "مغبة الانقسام"... وبكل تحفظ أرجئ الحديث بإسهاب عن الإعلام وتحديدًا الخارجي منها بما فيها أحداث الشغب في لندن إلى المقالة القادمة ... لكن، لحظة! ... صحيح إن نتيجة نسبة الاستطلاع كانت اقتناع 85% بإدانة مبارك، وفعلًا تسابقت التعليقات والشعارات والعناوين، ولكن لو فكرنا قليلًا نجد أن هذا الاستفتاء اُجري على بعض من مستخدمي شبكة الانترنت، تتراوح غالبية أعمارهم في سن لم تبتعد كثيرًا عن المراهقة، نسبة كبيرة منهم من سكان القاهرة، ويليها بفارق بعيد الإسكندرية، ثم نسبة ضئيلة لباقي أنحاء الجمهورية، بالتالي هم أصحاب فكر واتجاه واقع تحت تأثير الإعلام المُوجهة والمُغرض. لذا هذه النسبة لا تمثل كل شعب مصر وبالتالي لا تعكس رأيهم، هي فقط مؤشر يعكس تأثير وتوجهات قادة الرأي على مستخدمي الإنترنت. هؤلاء المشتركون في التصويت لم يعاصروا الإمام حسن البنا، لم يشاهدوا جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، لم يعرفوا السادات، ربما سمعوا عن صدام حسين ولكن لم يقدروا تفاصيل تاريخه، لم يلحظوا ترصد دول العالم بمصر حتى الصديقة منها، لم يشعروا مطامع تلك الدول، لعل الشباب والقوة والحماس يطغوا على الحكمة. هناك حالة من "الخلط"، فالبلد في حالة من القلق وعدم الاستقرار، ولكنه من غير المقبول التمادي في هذا الارتباك والفوضى، فالدين و التاريخ أمامنا عبرة لمن يعتبر. لا، لست أدافع عن مبارك ولا أدُين عبد الحكيم عامر ولا أترافع عن الإمام البنا ولا أتهم صدام ولا لي أية صلة بالسادات، فقط أدعو للتريث والتفكير ودراسة التاريخ لأخذ عظة منه بما ينفع ويفيد، وحجتي الوحيدة هي حب بلدي. في تاريخ مصر الحديث كم من مرة تكشف لنا، بعد مرور أجيال عديدة، أمورًا ووقائع قلبت الحقيقة والتاريخ رأسًا على عقب ... على سبيل المثال شهد تاريخ محاكمات جماعة الإخوان العديد من التأرجح والتقلبات، فتارة هم متهمون وتارة أنفسهم مدعون، تارة محكوم عليهم وتارة محكوم على المُعتدي عليهم ... ثم، هل كان المشير عبدالحكيم عامر قائد مُخلص ذو شعبية كبيرة خاصة بين أفراد الجيش الذي يقوده، أم على العكس وحسبما أُشيع عنه؟ هل مات منتحرًا، أم قُتل؟ ... ثم ما مدي حزم وقوة صدام وما سببهم، هل كان هو القائد المناسب، الحق، الصارم الذي لجأ للحزم القاسي ليوحد شعبه ويقرب بينهم، أم هو ذلك الطاغية الذي يبطش بطيش وتهور؟ هل كان مفتري أم مفترى عليه؟ كيف ترى مُحاكمة صدام ونهايته؟ ثم يأتي حديث السادات، فلا يشك الكثير منا في نية بطل الحرب والسلام، ولكن ما تفسير انتشار المحسوبية وشيوع الخداع والنصب وتفحل الفساد في عهده؟ هل هو مُدان أم شعبه هو المُدان؟ مهلًا فلا داعي لارتكاب معصية في شهر كريم، فالشماتة والاستهزاء والاستهانة بصورة مبارك في قفص الاتهام ليست من سماحة أي دين ولا من الإنسانية، ولا تفيدنا بشيء وبالتأكيد لا تحسب من التعقل، فمبارك مازال قيد المحاكمة، وتحقيق وتطبيق العدل هو الهدف الأهم، فإن كان مُدان وجب أتباع تعليمات رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون زيادة ولا نقصان حين خطب علية الصلاة والسلام في الذي جاء ليشفع في المرأة المخزومية الثابت عليها السرقة قائلًا (إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله ! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وإن كان مبارك برئ فعفي الله عنه، وإن أخطأ القاضي في حكمه سواء بالاتهام أو البراءة فليتحمل وزر خطئه أمام الله بدون أي تورط منا، فما لنا أن نحمل أنفسنا ما لا نعلم ولا نطيق من ذنوب. وكما قال الإمام الجليل مالك: "إذا رأيت الرجل يدافع عن الحق فيشتم ويسب ويغضب فاعلم أنه معلول النية لأن الحق لا يحتاج إلى هذا، يكفي الحق أن تصدح به، حتى يستجاب له".