إيدن كورفين ترجمة زينب عاطف يدمر انفصام الشخصية حياة الملايين في العالم، وقد أحبط جهود الباحثين الساعين لاكتشاف سبب واحد له. حان الوقت لتفكير جديد معقد.. الأوجه المتغيرة لانفصام الشخصية. يبلغ بول من العمر 21 عامًا. وهو يعتقد أنه بدأ يسمع أصواتًا في رأسه منذ بضع سنوات، لكن يصعب تذكر الوقت تحديدًا لأنها بدت وكأنها تزيد قوةً مع الوقت؛ فهي تهمس بإلحاح، وتعلق على أفعاله، وتحاول التحكم في أفكاره ومشاعره. إن التعايش معها معركة مستمرة، تسببت في تركه للجامعة وتوقفه عن رؤية أصدقائه. تلقى علاجًا في المستشفى ووُصفت له عقاقير مضادة للذهان، لكنه يرى كل هذا جزءًا من مؤامرة. يتحكم الذهان في رؤية بول للعالم. تعطل هذه الحالة العقلية الإدراك وتفسير الواقع، وتتسم بالهلاوس والأوهام. يعرف الأطباء أن الذهان علامة على العديد من الحالات المرضية التي تتراوح من تلك التي يسببها اضطراب الإلكتروليت إلى الصرع والخَرَف واضطرابات المناعة الذاتية النادرة. في حالة بول استُبعدت هذه الحالات سريعًا، وبعد ذلك استُبعِدت أيضًا الأسباب الأخرى قصيرة الأمد أو المتعلِّقة بالحالة المزاجية أو العقاقير، شُخِّصت حالة بول بانفصام الشخصية، وهو واحد من مجموعة من الاضطرابات التي من سماتها الذهان. إلا أن انفصام الشخصية يؤثر أيضًا في استجابة بول العاطفية واللفظية، والتحفيز والإدراك لديه. تمثل هذه الأعراض الوظيفية أكثر سمات المرض إعاقة له؛ لأنها تضعف قدرته على التفاعل مع الآخرين، والحفاظ على العلاقات الاجتماعية والعمل. ما انفصام الشخصية إذن؟ في أواخر القرن التاسع عشر حدَّد الطبيب النفسي الألماني إميل كريبلين أعراض ومظاهر مرض أطلَق عليه فيما بعد الطبيب النفسي السويسري يوجين بلولير انفصام الشخصية. رأى بلولير أن هذا مصطلح شامل لمجموعة من الأمراض. وبالرغم من محاولات تعريف الأنواع الفرعية أو تحديد أشكال معينة للمرض، فلا يزال انفصام الشخصية يُعامَلُ على نطاق واسع على أنه مرض واحد، وهو يصيب 1 بالمائة تقريبًا من البالغين. لذا، ربما تتمثل الإجابة الأكثر إيجازًا وأمانة على سؤال «ما انفصام الشخصية؟» في أننا لن نعرف ذلك حقيقةً إلا عندما نستطيع تعريف أساسه الحيوي العصبي. حتى الآن يمثل الذهان تحديًا ضخمًا أمام أبحاث علوم الأعصاب لأنه يزعزع معتقداتنا بشأن طريقة رؤيتنا للعالم وفهمنا للمخ. مع ذلك، فقد علمنا بعض الأشياء؛ فهذا المرض قابل للتوارُث بدرجة كبيرة، ويكون أكثر شيوعًا لدى ذرية كبار السن. تزيد احتمالات ظهوره بعد حدوث مشاكل في الولادة وغيرها من عوامل الخطر، منها التعرُّض للإساءة في الطفولة واستخدام مخدِّر الحشيش في وقت مبكر من سن المراهقة والتهميش الاجتماعي. نعلم أيضًا أن من يُصابون بالفصام يميلون إلى الإصابة بتأخُّر غير واضح في تطور المهارات اللغوية والحركية والاجتماعية في مرحلة الطفولة المبكرة، يسبق ظهور الأعراض بسنوات عدة، وهذا يقترح أن السبب يتعلق بالنمو العصبي. تعتبر القدرة على تمييز الذهان عن غيره من الأمراض مهمة؛ لأنها تسمح للباحثين بتطوير أدوية لفصام الشخصية، منها العقاقير المضادة للذهان، وتجعل التدخل النفسي ممكنًا. لكن بالرغم من العلاج، فإن المصابين بانفصام الشخصية ينتهي بهم الحال بالإصابة بمشاكل صحية خطيرة؛ فيكون متوسط أعمارهم المتوقعة أقل من المعتاد في العالم المتقدم بنحو 20 عامًا. أحد أسباب إعاقة التقدم في الأبحاث هو أن المصابين بانفصام الشخصية مجموعة متنوعة، ولا عجب في ذلك حيث إن الأعراض تشتمل على الهلاوس أو الأوهام أو التفكير المختل أو السلوك المضطرب أو مشاكل التحفيز، ويمكن أن يصاب شخص ما بمشكلتين فحسب من هذه المشاكل. كذلك يعاني ما يقرب من 20 بالمائة من المرضى نوبة واحدة، وتكون حالة ثلث المرضى تقريبًا مزمنة ويستجيبون جزئيًّا فقط للعلاج. بالرغم من هذا التنوع، فلا يزال معظم الباحثين والأطباء ينظرون إلى انفصام الشخصية على أنه مرض واحد. يعارض الباحثون حاليًّا — بما فيهم فريقي — هذا الافتراض، وذلك بالاستعانة بما نعرفه عن الجينوم البشري. إن الجينوم، أو «كتاب الحياة»، مليء بالأخطاء التحريرية والمطبعية، وتكثر الصفحات المحذوفة أو المكرَّرة به. إلا أن هذا أفاد الباحثين؛ إذ انبثقت الاكتشافات الأولى من هذه الصفحات. على مدار السنوات الخمس الماضية أظهرت أدوات تحليل الجينوم أن الطفرات البنيوية (حيث يتكرر جزء من الجينوم أو يُحذَف، بما قد يؤدي إلى خلل أو تغيُّر في إنتاج البروتين) تكون أكثر شيوعًا لدى المصابين بانفصام الشخصية، ومع أن كل طفرة تكون نادرة لدى المصابين بانفصام الشخصية، اكتشف الباحثون لدى نحو 5 بالمائة من المرضى عشراتِ المناطق في الجينوم تحدث فيها مثل هذه التغيُّرات، وبناء على المنطقة يزيد هذا التغير من خطر الإصابة بانفصام الشخصية من ثلاثة أضعاف إلى عشرين ضِعفًا، بعض المناطق كبيرة وتحتوي على العديد من الجينات، لكن البعض الآخر صغير ولا يؤثر إلا على جين واحد. هذا ما كنا نعتقد. في الواقع تزيد كل طفرة بنيوية متكررة — يطلق عليها تفاوت في عدد النسخ — خطر الإصابة بنطاق من اضطرابات النمو، منها التوحد وإعاقات التعلم والصرع. لكن بينما يحتمل أن يسهم التفاوت في عدد النسخ بشدة في مرض الإنسان، فإنه يمثل نوعًا واحدًا فحسب من التفاوتات في الجينوم؛ لذا ربما تكون الأشكال الأخرى من التفاوت الأكثر شيوعًا مهمة أيضًا. بما أنه أصبح من الممكن حاليًّا رسم تتابعات الجينوم على نطاق واسع، نستطيع البحث عن تغيرات على مستوى قواعد النيوكليوتيدات الفردية، والمسئولة عن معظم الفروق الوراثية بين البشر. يتراوح هذا التفاوت من اختلافات النيوكليوتيدات الموجودة في 5 إلى 50 بالمائة من السكان، وحتى التغيرات الفردية الفريدة. يعتمد تأثير التغيُّرات بدرجة كبيرة على ما إذا كانت تحدث داخل الجينات أو تؤثِّر على وظيفة الجين. كالمتوقع، تكون أكثر التغيُّرات تدميرًا هي أكثرها نُدرة. نحمل كلنا قليلًا من هذه التغيُّرات، لكن تشير الدراسات إلى أن المصابين بانفصام الشخصية يحملون عددًا أكبر من المعدل الطبيعي. مرة أخرى، ترتبط العديد من الجينات المهمة بأمراض كالتوحد. في الشهر الماضي، سمع الباحثون في المؤتمر العالمي عن علم الوراثة النفسي في هامبورج بألمانيا أن الجينات المرتبطة بانفصام الشخصية لا يبدو أنها تشكل جزءًا من مسار واحد، بل تشير إلى عمليات مهمة؛ كعمل الجهاز المناعي وليونة التشابكات العصبية وتنظيم مجموعات الجينات خلال النمو المبكر للمخ. أثار هذا جدلًا بشأن ما إذا كان بلولير محقًّا، وإذا ما كُنَّا بدأنا في تعريف الأمراض في متلازمته. إذا كان الأمر كذلك، فإن فهم علم الوراثة سيكون مفتاحًا لا للتشخيص فحسب بل أيضًا لإعداد عقاقير تستهدف الآليات الجزيئية بدلًا من الأعراض الإكلينيكية. فيما يخص بول، ربما يعني هذا عدم النظر إليه بعد الآن على أنه شخص يعاني انفصام الشخصية يُحتمل أن يستجيب لعلاج شامل. بدلًا من ذلك، يمكن القول إنه شخص لديه طفرة نادرة تحتاج إلى علاج معين. وإذا كان لدى بول أخٌ يعاني اكتئابًا، أو ابنة أخ أو أخت تعاني الصرع، ويشتركون معه في الطفرة نفسها، فربما يستجيبان أيضًا للعلاج نفسه. إذن ماذا بعد؟ لدينا قائمة متزايدة من الطفرات النادرة، ويُحتمل العثور على المزيد، إلا أن تأثير هذا على الرعاية الصحية سيعتمد على أمرين: الأول هو نسبة مَن يعانون طفرة نادرة واحدة على الأقل (التقديرات لانفصام الشخصية تقترب من 5 بالمائة وأكثر من 10 بالمائة في التوحد). ثانيًا — والأهم من ذلك — التأثير التراكمي لكل طفرة على احتمال الإصابة بالمرض. في بعض الحالات، تؤثر إحدى الطفرات بعمق على آلية جزيئية مهمة؛ مما يسبب خطر الإصابة بانفصام الشخصية أو يزيده بشدة. في الغالب، يرجح أن يأتي المرض نتيجة للعديد من الطفرات الموروثة أو الجديدة المصحوبة بعوامل بيئية — كالضغط العصبي — أكثر من كونه نتيجة لطفرة واحدة. وفي الواقع، يحتمل أن يشتمل خطر الخلفية الجينية على مئات أو حتى آلاف الآثار الوراثية الخفية التي يطلق عليها تعدد أشكال النيوكليوتيد المفرد، بحيث يكون لكل منها إسهام ضئيل في خطر الإصابة. تطرح الاكتشافات أيضًا أسئلة كبيرة: هل أكثر المتأثرين هم مَن يعانون أكثر الطفرات حدة؟ كم عدد الآليات الوراثية المستخدمة؟ ما أفضل أهداف العلاج؟ هل يوجد أفراد لديهم خطر وراثي ضئيل تعتمد أسباب انفصام الشخصية أو بواعثه لديهم على التعرض لمخدر الحشيش أو — لنقُل — ضغوط الحياة؟ ما الذي سنتعلمه عن النمو الطبيعي للمخ ووظيفته؟ ستكون الإجابات مهمة لنا جميعًا.