استقبلت الأوساط السياسية والدينية في مصر زيارة الرئيس عدلي منصور للكاتدرائية المرقسية بالعباسية، لتهنئة البابا تواضروس الثاني والإخوة المسيحيين بعيد الميلاد المجيد، بحفاوة غير مسبوقة. ضربة معلم: وتكتسب هذه الزيارة أهمية خاصة باعتبارها أول زيارة لرئيس مصري للكاتدرائية، منذ زيارة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر عام 1959 ليقدم التهنئة بعيد جلوس البابا كيرلس السادس البطريرك رقم 116 "1959-1971م" على كرسي مارمرقس، وقد رحب البابا تواضروس بالرئيس منصور، قائلًا: "باسم كل آباء الكنيسة والمجمع المقدس والمجلس الملي والأوقاف وكل الحضور نرحب بسيادتكم وسعداء بهذه الزيارة التي نعتز بها وسيادتكم في بيتكم ومكانكم، وإن المشاعر الطيبة والود بين القادة تقدم رسالة جميلة للناس". كما أن توقيت هذه الزيارة يأتي في مرحلة بالغة الحساسية يحتاج الوطن خلالها لتكاتف وتعانق جميع أبنائه لمواجهة التحديات الخطيرة والمؤامرات الدنيئة التي تحاك ضده في الظلام والتي تقودها وتمولها أطراف خارجية لا تريد الخير لمصر بل تسعى لنشر الفوضى والفتنة بين أبناء الوطن الواحد. الزعيم والكنيسة: وكما يقول المفكر القبطي د. ماجد عزت فإن الكنيسة القبطية مؤسسة دينية ذات تراث عريق متميز بين جميع كنائس العالم، يمتد لأكثر من ألفي عام، لاعتمادها على مصادر تشريعية، ساهمت في صنع القرار داخل المؤسسة الكنيسة، وهو ما يميزها بمسحة ديمقراطية. ولا تنسى الكنيسة القبطية المصرية الموقف الوطني للزعيم جمال عبدالناصر، الذي أصدر قراراً بإنشاء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، ووضع حجر تأسيسها في 24 يوليو 1965م، حتى تتماشى مع مكانة الكنيسة المصرية. وقد عبر الكاتب الصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل، في كتابه "خريف الغضب" قائلاً: "كان الرئيس عبدالناصر يدرك المركز الممتاز للكنيسة القبطية ودورها الأساسي في التاريخ المصري، ثم أنه كان واعيًا بمحاولات الاستقطاب التي نشط لها مجلس الكنائس العالمي، وهكذا فإنه قرر على الفور أن تساهم الدولة بنصف مليون جنيه في بناء الكاتدرائية الجديدة، نصفها يدفع نقداً ونصفها الآخر يقدم عينيًا بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام والتي يمكن أن يعهد إليها بعملية البناء". كما ساهم أبناء رئيس الجمهورية ماديا في بناء الكاتدرائية بتبرعهم بقدر معين من مصروفهم بتشجيع من والدهم الرئيس عبد الناصر، وفي هذا يذكر الكاتب الصحفي محمود فوزي، في كتابه "البابا كيرلس وعبد الناصر" قائلاً: "تعود قداسة البابا أن يزور الرئيس عبدالناصر في منزله، وفي زيارة من هذه الزيارات .. جاء إليه أولاده، وكل منهم يحمل حصالته وقفوا أمامه فقال الرئيس لقداسته: أنا علمت أولادي وفهمتهم إن اللي يتبرع لكنيسة زي اللي يتبرع لجامع، والأولاد لما عرفوا إنك بتبني كاتدرائية صمموا على المساهمة فيها، وقالوا هنحوش قرشين، ولما ييجي البابا كيرلس حنقدمهم له، وأرجوا لا تكسفهم وخذ منهم تبرعاتهم". وفي حفل افتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في 25 يونيو 1968م، توجت العلاقة بين الكنيسة والسلطة السياسية حيث حضر الرئيس جمال عبد الناصر، رغم مرضه، وإمبراطور الحبشة هيلا سيلاسي، وممثلو الكنائس العالمية. وفي 26 يونيو 1968 م دشن قداسة البابا كيرليس مذابح الكاتدرائية بصلاة القداس، كما أودع رفات مار مرقس الرسول التي أحضرها من إيطاليا تحت هيكلها الكبير. ويذكر التاريخ المصري الموقف الوطني للكنيسة القبطية، حين أعلن الرئيس عبد الناصر تنحيه عن مؤسسة الرئاسة، إثر نكسة 5 يونيو 1967 م وهزيمة الجيش المصري، حيث يصف لنا القس رفائيل أفامينا، في كتابه مذكراتي عن حياة البابا كيرلس السادس هذا المشهد قائلاً: "في صباح يوم 9 يونيو 1967 م صلى البابا القداس رافعاً قلبه لأجل مصر وشعب مصر وكان حزيناً، ثم ذهب مباشرة إلى بيت السيد الرئيس عبد الناصر وصحبه ثلاثة مطارنة وحوالي 15 كاهنا، ووصل البابا لمنزل الرئيس بصعوبة من شدة الزحام، ولم يستطع مقابلته، فطلب الرئيس أن يكلم البابا عبر الهاتف وقال له: "أنا عمري ما تأخرت في مقابلتك في بيتي في أي وقت، ولكني مريض جدا والأطباء حولي". فقال له البابا كيرلس: "طيب عاوز أسمع منك وعد واحد" .. فرد عليه الرئيس: "قل يا والدي"، فقال قداسته: "الشعب يأمرك إنك ما تتنازلش" .. فقال له الرئيس عبدالناصر: "وأنا عند أمر الشعب وأمرك"، وبعدها غادر البابا كيرلس السادس بيت الرئيس وفي طريق عودته طلب الاستعداد لضرب الأجراس، وبعد قليل أعلن السيد "أنور السادات "رئيس مجلس الأمة "أن الرئيس جمال عبد الناصر نزل على إرادة الشعب". وقد بكت الكنيسة القبطية المصرية، كما بكى شعب مصر جميعا، وحزن قداسة البابا كيرلس السادس، عقب سماعه نبأ وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، في 28 سبتمبر 1970م، وأعلنت الكنيسة القبطية الحداد على وفاة الرئيس، وأصدر البابا كيرلس، أوامره لجميع الكنائس والأديرة بدق الأجراس الحزينة، وأن تتشح جميع الكناس بالسواد طول فترة الحداد، كما تلقى البابا برقيات عزاء من بعض ملوك و رؤساء العالم. "واصل" الخير: ولم تقتصر مشاعر الأخوة على الرئيس عدلي منصور بل قال الدكتور نصر فريد واصل، مفتى الديار المصرية الأسبق، أنه علينا كمسلمين أن ندين بالوطنية لجميع الأديان الأخرى في مصر، معتبرًا أن تهنئة الأقباط بأعيادهم واجب على كل مواطن، قاطعا بهذا الطريق على جميع التخرسات العقيمة التي تجادل في مسلمات ثابتة تتعلق بشبهة تحريم تهنئة المسلم لأخيه المسيحي. وفي الواقع فإن هذه العقول تحتاج إلى مصحة نفسية، فستظل الوحدة الوطنية هي أيقونة الشعب المصري ومصدر إلهامه وقوته وتقدمه ولا عزاء لمثيري الفتنة الطائفية الذين سيكون مآلهم المحتوم إلى "مزابل التاريخ".. فليحتفل الأخوة المسيحيون بعيدهم وبعدها يحتفل المسلمون بمولد النبي الهادي ويقدمون حلوى المولد لإخوانهم الأقباط وليذهب "المخابيل" إلى مستشفى المجانين.