في كتابه «وقت مستقطع: تأملات قرآنية في واقع مضطرب»، يقول معتز عبدالرحمن: إن علاقتنا كمسلمين مع القرآن الكريم في هذه الأيام لها صور ودرجات متعددة، فما بين حافظ متقن وتال مداوم متدبر، وبين حافظ متقن لأحكام التلاوة دون تدبر وفهم، أو حريص على التلاوة وورده خط أحمر أيضًا دون تأمل، أو كثير الاستماع للتلاوات المسجلة في السيارة والعمل والبيت، وهو بعيد كل البعد عن تلاوة كتاب الله. مصحفه يعلوه التراب في البيت وتأكله الشمس في السيارة، والصورة الأخيرة هي الأكثر انتشارًا للأسف، إلى أن يأتى رمضان وتتغير الأحوال ظاهرًا، فتفتح الأدراج ويزال التراب ويهرع كل فرد من أفراد الأسرة إلى مصحفه، وربما تنافسوا على توزيع المصاحف، كل يبتغى الأوضح خطا والأبهى ورقًا والأيسر حملًا، ليبدأ شهر كامل يمتلىء البيت فيه بالدندنة الجميلة، وكذلك وسائل المواصلات والمساجد بعد الصلوات، وتزدحم المساجد في صلاة التراويح ليستمع المسلمون لتلاوة آيات الله البينات بعدما قرأوها، فتعانق الآذان بعدما عانقت الألسنة، ثم تعانقها مرة أخرى في صلاة التهجد في العشر الأواخر، حتى يخرج بعض المسلمين من رمضان وقد قرأ القرآن الكريم كاملًا على الأقل مرة، وسمعه كاملًا على الأقل مرتين، ومع هلال العيد يعود كل شيء كما كان من جديد. ومصداقًا لقول الله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»، وجب علينا أن نأخذ وقتا مستقطعا لنعيد مراجعة تفسيرنا وفهمنا للقرآن الكريم، ومن خلال عدة وقفات وحلقات قصيرة ومركزة كالآتى: ■ ■ ■ إن المسلم الحريص على النجاة الذي يخشى عذاب ربه ويرجو رحمته، ليبحث في كتاب الله بشغف عن أبواب النجاة ليدخلها وينهل من خيراتها، وعن صفات أبواب الهلاك ليحذر منها ويبتعد عنها، وقد توسل المسلم في تلاوته لسورة الفاتحة أن يجعله الله تعالى من الذين أنعم الله عليهم وأن يهديهم صراطه المستقيم: «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ». وبعد الدعاء وطلب الهداية والتوفيق يأتى العمل والأخذ بالأسباب، والعمل يتطلب العلم، فيختم سورة الفاتحة، لتأتى فواتح سورة البقرة لترشده إلى غايته: «الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» يتصدر الإيمان قائمة واجبات باغى النجاة والفوز، كيف لا وهو الواجب الذي إن فقد لا ينفع المرء أي عمل يعمله، وإن تحقق على الوجه الصحيح ترجى معه مغفرة الذنوب ونيل الشفاعة وينجو به العبد من الخلود في النار. «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا» يقول العلامة عبد الرحمن السعدى في تفسيره: «حقيقة الإيمان هي التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله». فهذا الإيمان الذي يميز المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. ■ ■ ■ إن المحنة تنسى، والألم يأخذ بعقل الإنسان ويشغله، فبعد نصر بدر إن نسى المسلمون هذا النصر في هذه اللحظات قد يوسوس الشيطان لهم أن دينهم ومنهجهم هو سبب الهزيمة وليس تقصيرهم وخطأهم، وهذا درس عظيم في التثبيت وفى توجيه الرسائل وتعليمها، إن أردتم معرفة سبب ما أصابكم تذكروا أولًا كيف انتصرتم من قبل على قلتكم وضعفكم؟ وكيف أذل الله بكم صناديد قريش وساداتها؟ ولو كان الأمر بالقوة والإمكانيات، لما انتصرتم في بدر، فتأملوا في الأسباب الحقيقية كى تستفيدوا من التجربة. على المسلم إذا وقع في محنة أن يكون وسطًا، لا يبرئ نفسه من الإثم والخطأ ويلقى باللائمة على غيره، فلا يتعلم أبدًا ولا ينصلح، ولا يستسلم لحزن المحنة ويعقد اللطمات عليها، ولا يتجاوزها قط، فالمسلمون عائدون من أحد بسبعين شهيدا، وقائدهم ورسولهم مصاب، وبهم من الألم ما بهم فيذكرهم الله ابتداء بغزوة بدر، وما كان فيها من نصر على نفس العدو ويواسيهم: «وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ». بعدما انتهت المعركة وتوجه جيش المشركين عائدًا إلى مكة ندموا أنهم لم يهاجموا المدينة، وفكر أبو سفيان في العودة، وبدأ يتجهز لذلك، ولم يكن مضى غير يوم، فدعا النبى صلى الله عليه وسلم مقاتلى أحد تحديدًا للخروج من جديد، وصد هذا الهجوم المتوقع، وأمرهم بالخروج واستكمال الجهاد فورًا وهم على جراحهم وآلامهم النفسية والجسدية، فكانت غزوة حمراء الأسد التي ذكرت في قوله تعالى: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ». ■ ■ ■ لقد ارتبط مفهوم العدل في عقول الكثيرين بالحكام والقضاء وما شابه ذلك، كلما سمعوا آية أو حديثا أو حتى مقولة حكيم عن مدح العدل أو ذم الظلم أسقطوها على الفور على القاضى والحاكم، ولم تتجاوز أذهانهم هذا المفهوم النمطى القاصر، وبالتالى لم يتجاوز واقعهم الحضيض الذي يعيشون فيه، فعندما تقرأ آيات الله وأحاديث الحث على العدل والنهى عن الظلم عليك أن توسع أفقك، وأن تسقطها على نفسك قبل أي أحد كى تعلم أين أنت منها، حتى لا تكون واقعًا في ظلم الآخرين، وأنت تشعر وتحسب أنك تحسن صنعًا، إذ إنك لست صاحب جاه ولا سلطة قضائية رسمية، فكلنا قاض في محيطه، وكلنا معرض للوقوع في الظلم. والمتأمل في صورة النساء يجدها تقوّم هذا القصور وتوسّع مفهوم العدل في الأذهان، فتتناول العدل بين الزوجات حال التعدد: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا». وعن العدل مع اليتم وحفظ حقه: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا». وعن العدل مع عامة المسلمين، ومع الشركاء وحفظ أموالهم وعدم أكلها بالباطل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا»، وعن العدل حال الحكم بين زوجين مختلفين وإرادة الإصلاح والصدق بينهما: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا»، والأمر برد الأمانات إلى أهلها: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا». وفى النهاية، إن الحريص على النجاة الباحث عن رضا الله يحتاج دومًا أن تظل عيناه متوجهتين إلى يوم اللقاء، حتى وهو منشغل بعاداته وأعماله الدنيوية الخالصة التي يقيم بها حياته، فإما تتحول إلى عبادة إن أخذ فيها نية صالحة أو على الأقل لا يقع فيها في معصية لشدة خشيته من ربه وحذره من اليوم الآخر. إن الإيمان باليوم الآخر مع كونه ركنًا من أركان الإيمان الستة لا ينجو المرء إلا بتحقيقه واليقين فيه، فإن له أثرًا عمليًا يوميًا في حياتنا كلها، إن أثر الإيمان باليوم الآخر ليس فقط البكاء عند سماع الآيات التي تتناوله، ولكن ينبغى أن يظهر في عمل كل مسلم وسلوكه، لذا فإن إبهام توقيت قيام الساعة لم ولن يعطل المسلم عن شيء.