قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد حدثتني عن الواشي الماهر المحتال، كيف يفسد بالنميمة المودة الثابتة بين المتحابين؟ فحدثني حينئذٍ بما كان من حالة دمنة وما آل أمره إليه بعد قتل شتربة، وما كان من معاذيره عند الأسد وأصحابه حين راجع الأسد رأيه في الثور، وتحقق النميمة من دمنة، وما كانت حجته التي احتج بها؟ قال الفيلسوف: أنا وجدت في حديث دمنة أن الأسد حين قتل شتربة ندم على قتله، وذكر قديم صحبته وجسيم خدمته، وأنه كان أكرم أصحابه عليه. وأخصهم منزلةً لديه، وأقربهم وأدناهم إليه؛ وكان يواصل له المشورة دون خواصه. وكان من أخص أصحابه عنده بعد الثور النمر. فاتفق أنه أمسى لنمر ذات ليلةٍ عند الأسد، فخرج من عنده جوف الليل يردي منزله، فاجتاز على منزل كليلة ودمنة، فلما انتهى إلى الباب سمع كليلة يعاتب دمنة على ما كان منه، ويلومه على النميمة واستعمالها، خصوصًا مع الكذب والبهتان في حق الخاصة. وعرف النمر عصيان دمنة وترك القبول له. فوقف يستمع ما يجري بينهما فكان فيما قال كليلة لدمنة: لقد ارتكبت مركبًا صعبًا، ودخلت مدخلًا ضيقًا، وجنيت على نفسك جنايةً موبقةً، وعاقبتها وخيمةٌ؛ وسوف يكون مصرعك شديدًا، إذا انكشف للأسد أمرك، واطلع عليه، وعرف غدرك ومحالك، وبقيت لا ناصر لك، فيجتمع عليك الهوان والقتل، مخافة شرك، وحذرًا من غوائلك؛ فلست بمتخذك بعد اليوم خليلًا، ولا مفشٍ إليك سرًا؛ لأن العلماء قد قالوا: تباعد عمن لا رغبة فيه. وأنا جدير بمباعدتك، والتماس الخلاص لي مما وقع في نفس الأسد من هذا الأمر. فلما سمع النمر هذا من كلامهما قفل راجعًا، فدخل على أم الأسد؛ فأخذ عليها العهود ومواثيق أن لا تفشي ما يسر إليها، فعاهدته على ذلك فأخبرها بما سمع من كلام كليلة ودمنة. فلما أصبحت دخلت على الأسد، فوجدته كئيبًا حزينًا مهمومًا: لما ورد عليه من قتل شتربة. فقالت له: ما هذا الهم الذي قد أخذ منك، وغلب عليك؟ قال: يحزنني قتل شتربة؛ إذ تذكرت صحبته ومواظبته على خدمتي، وما كنت أسمع من مناصحته. قالت أم الأسد: إن أشد ما شهد امرؤٌ بلا علم ولا يقين؟ ولولا ما قالت العلماء في إذاعة الأسرار وما فيها من الإثم والشنار، لذكرت لك ولأخبرتك بما علمت. قال الأسد: إن أقوال العلماء لها وجوهٌ كثيرةٌ، ومعانٍ مختلفةٌ. وإني لأعلم صواب ما تقولين: وإن كان عندك رأي فلا تطويه عني؛ وإن كان قد أسر إليك أحدٌ سرًا فأخبريني به، وأطلعيني عليه، وعلى جملة الأمر. فأخبرته بجميع ما ألقاه إليها النمر من غير أن تخبره باسمه. وقال: إني لم أجهل قول العلماء في تعظيم العقوبة وتشديدها، وما يدخل على الرجل من العار في إذاعة الأسرار؛ ولكني أحببت أن أخبرك بما فيه المصلحة لك؛ وإن وصل خطؤه وضرره إلى العامة فإصرارهم على خيانة الملك مما لا يدفع الشر عنهم، وبه يحتج السفهاء، ويستحسنون ما يكون من أعمالهم القبيحة. وأشد معارهم إقدامهم على ذي الحزم. فلما قضت أم الأسد هذا الكلام، استدعى أصحابه وجنده فأدخلوا عليه. ثم أمر أن يؤتى بدمنة. فلما وقف بين يدي الأسد، ورأى ما هو عليه من الحزن والكآبة، التفت إلى بعض الحاضرين فقال: مالذي حدث؟ وما الذي أحزن الملك؟ فالتفتت أم الأسد إليه وقالت: قد أحزن الملك بقاؤك ولو طرفة عين؛ ولن يدعك بعد اليوم حيًا! قال دمنة: ما ترك الأول للآخر شيئًا: لأنه يقال: أشد الناس في توقي الشر، يصيبه الشر قبل المستسلم له. فلا يكونن الملك وخاصته وجنوده المثل السوء؛ وقد علمت أنه قد قيل: من صحب الأشرار، وهو يعلم حالهم، كان أذاه من نفسه: ولذلك انقطعت النساك بأنفسها عن الخلق، واختارت الوحدة على المخالطة، وحب العمل لله على حب الدنيا وأهلها. ومن يجزي بالخير خيرًا وبالإحسان إحسانًا إلا الله؟ ومن طلب الجزاء على الخير من الناس. وإن أحق ما رغبت فيه رعية الملك هو محاسن الأخلاق ومواقع الصواب وجميل السير؛ وقد قالت العلماء: من صدق ما ينبغي أن يكذب، وكذب ما ينبغي أن يصدق، خرج من مصاف العقلاء، وكان جديرًا بالازدراء. فينبغي ألا يعجل الملك في أمري بشبهةٍ. ولست أقول هذا كراهةً للموت: فإنه وإن كان كريهًا، لا منجى منه. وكل حيٌ هالكٌ. ولو كانت لي مائة نفسٍ وأعلم أن هوى الملك في إتلافهن، لطبت له بذلك نفسًا.