اكتشفت أنها رقابة أغلبية المجتمع أيضًا، لا الدولة وحدها، ولكن قبل هذا أعود بك عامًا إلى الخلف، وقد تخرجت فى المعهد، وكانت أوراقى قد ذهبت إلى المعهد لأعين به فى غيبة رشاد رشدى فى الخارج، فلما عاد رفض قبولى، وقال عنى «إنى ولد صايع»! وذلك رغم أننى لم أقابله أبدًا، ورغم أننى الوحيد الذى ظهرت له عدة تمثيليات بالتليفزيون، وكان باقى دفعتى قد عينوا فى التليفزيون وقصور الثقافة ووظائف فنية أخرى، فأصبحت أنا الوحيد بلا وظيفة، وكان لا بد أن أعمل فى مكان، وإلا ضاع علىّ التعيين فذهبت إلى الدكتورة لطيفة الزيات، وكانت قد أصبحت رئيسة الأكاديمية، فاقترحت علىّ أن أعين فى أى وظيفة لمدة عام، وسيكون رشاد قد طلع بعدها على المعاش وساعتها توصى بتعيينى فى المعهد، وتسلمت عملى ليوم واحد كموظف فى إدارة شئون العاملين بأكاديمية الفنون، فكنت الوحيد الذى عين فى هذا المكان من الخريجين! واتصلت هى بنبيل الألفى المشرف على المسرح القومى ورئيس قطاع الدراما، لينتدبنى عنده لعام واحد حتى يخرج رشاد إلى المعاش. وكان مقر القطاع فى المسرح القومى، وكنت أذهب عندما أريد، ولا أوقع فى كشوف الحضور، وسجلت كباحث فنى، وهى وظيفة وهمية، والباقى كلهم من الموظفين وأتقاضى شهريا 17 جنيها بحالهم! وكنت أجلس مع نبيل الألفى للدردشة لوقت طويل، دون أن أخبره أننى أكتب مسرحيات وتمثيليات أو حتى قصصًا، وأتمشى على سور حديقة الأزبكية أستعرض وأفحص الكتب القديمة التى أجدها، والتى تباع على السور بأثمان رخيصة، ومن هناك اشتريت كتابًا لتعليم الكتابة على الآلة الكاتبة، وما زال عندى، وبالفعل تعلمتها بنفسى لأسجل كل ما أكتب ومر العام، وجاءت لحظة خروج رشاد إلى المعاش. لكن ما حدث هو خروج لطيفة من رئاسة الأكاديمية، وترقى رشاد رشدى مكانها كرئيس للأكاديمية رغم بلوغه سن المعاش! وابتسم أنت فى مصر. ورغم أننى انتهزت فرصة عملى فى مكتب الألفى لأتفرغ للكتابة فقد دفعنى الغيظ إلى أن أذهب إلى يوسف السباعى، وكان وزيرًا للثقافة لعله يتدخل لتعيينى بالمعهد، ولما ذهبت إليه فى الموعد الثانى لم يتهرب منى كما فعل محمود أمين العالم. وقال إنه حاول مع الدكتور رشاد كثيرًا، ولم يوفق، لأنه لا يريدنى عنده، وهو لا يستطع أن يأمره. واحترمت الرجل، لأنه حاول مساعدتى بصدق، لكنه فشل، وذهبت إلى هيئة المسرح لكى أجدد انتدابى فقالوا لى إنه يتجدد من تلقاء نفسه. بالطبع حقدت بشدة على الدكتور رشاد، لكننى بعد وقت قصير بدأت أفكر لماذا أحزن على عدم إلحاقى بالمعهد؟ فهذا كفيل أن يعطلنى عن الإنتاج الفنى، ومن ناحية أخرى يستطيع الدكتور أن يهرسنى إذ عملت تحت إدارته، خصوصا أن الوظيفة لا تعنى أن أكون معيدًا إلا عن طريق مسابقة، وتدريجيًا بدأت أعى أن هذا هو أفضل ما فعله الدكتور لى دون أن يدرى! وهكذا قررت التفرغ للكتابة فقط، وقد عرفت هويتى التى غابت عن بالى، رغم أن الكتابة هى العمل الوحيد الذى أحبه منذ أن كنت طفلًا فى التاسعة، وبالتالى لم يعد العمل بالمعهد له أى قيمة عندى، وحتى إذا تركه رشاد، خصوصا والمعهد فى حالة بشعة من الركاكة والمحسوبية والروتين الغبى. وربما عملى ككاتب قد يغيظه أكثر، وهذا ما سيحدث بالفعل فى وقت أقصر مما كنت أعتقد فسوف تنافس أولى مسرحياتى، أول وآخر مسرحية له للقطاع الخاص وتعطلها لمدة عامين «كانت المسرحيات فى القطاع العام والخاص فى أحيان كثيرة لا يستمر عرضها أكثر من شهر أو شهرين». وهكذا صرت ماكينة للكتابة فى المكتب والبيت على السواء. أكتب مسرحيات قصيرة وطويلة وتمثيليات ومسلسلات بعضها من تأليفى أو إعداد عن قصص أجنبية للقطاع الخاص، الذى كان قد بدأ ينتج، لكنه يصور أعماله خارج مصر كالجريمة والعقاب وغيرها، ولم أتوقف أيضًا عن كتابة القصص! حقا ظل بعضها يتعثر ويرفض سواء من التليفزيون المصرى أو الخاص، لكن أصبح لدىّ عدد كبير من المخرجين يطلبون منى أعمالا باستمرار كلما قابلونى حتى ولو لم أكن أعرفهم. وعمومًا كان أغلب ما أكتبه يجد طريقه للعرض ولو بعد سنوات، وبعضها كتبته منذ أكثر من عشر سنوات، وقبل أن أصل إلى سن الرشد. ما عدا الأعمال التى وقفت فيها ولم أكملها، فأنا أيضًا رقيب نفسى، وأستطيع أن أنقد ما أكتبه وأتراجع عنه دون أن أخبر أحدًا، لكننى أحتفظ به للآن للذكرى! كنت مصرًا على أن أكون كاتبًا مسرحيًا أكثر من كاتب تمثيليات ومسلسلات بل وأفلام. ولاح لى فى الأفق إمكانية ظهور أول مسرحية لى، لكن الأمر لم يكن سهلًا أبدًا.