هل يمكن أن نتحدث عن "اقتصاد المعرفة" في بلد يعاني من انتشار الأمية بمعدلات كبيرة، ويفتقر إلي الشفافية وحرية تداول المعلومات، ويرزح تحت نير منظومة تعليمية قائمة علي الحفظ والاستظهار والتلقين ومحاربة الإبداع وملكة التفكير النقدي؟ هذا السؤال طرح نفسه بشدة بمناسبة تنظيم مكتبة الإسكندرية ورشة عمل تعليمية عن "تطوير استراتيجيات اقتصاد المعرفة لتحسين التنافسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، بالتنسيق بين منتدي الإصلاح العربي بالمكتبة ومعهد البنك الدولي ومنتدي البحوث الاقتصادية ومعهد السياسة العامة والإدارة بكوريا الجنوبية والمجلس الوطني المصري للتنافسية. وفي الحقيقة فإن هذا اللقاء الفكري رفيع المستوي قد برهن علي أنه أياً كان مستوي التنمية، فإنه يتعين علي كل البلدان التفكير جدياً في نمط تنموي قائم علي المعرفة ومبني علي الإبداع والابتكار، حيث أصبحت المعرفة في عصر العولمة المورد الرئيسي الدائم الذي لا ينضب للتنمية. ولذلك فإن استغلال واستثمار هذه المعرفة من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي أصبح مركز اهتمام استراتيجيات التنمية بنحو متزايد. وليس هذا بالأمر الجديد بالنسبة للبلدان المتقدمة، لأن الدور الرئيسي للمعرفة والابتكار في النمو الاقتصادي لهذه البلدان معترف به في هذه البلدان منذ أمد بعيد، بل إن هذه البلدان قد تقدمت بسبب اعتمادها علي المعرفة والابتكار. وتراكم هذه الخبرات القائمة علي المعرفة والابتكار هي التي أدت في نهاية المطاف إلي "اقتصاد المعرفة". لكن الحال ليس كذلك في البلدان "النامية"، الأمر الذي جعل الكثيرين في "العالم الثالث" ينظرون إلي "اقتصاد المعرفة" كما لو كان أمراً لا يخصنا نحن فقراء العالم. وبالعكس تماما من هذه الرؤية الضمنية جاءت أعمال هذا اللقاء الفكري في عروس البحر الأبيض المتوسط ليحمل عددا من الرسائل المهمة. الرسالة الأولي هي أن المعرفة والابتكار قد لعبا دورا جوهريا في التنمية منذ بدايات تاريخ البشرية. لكن مع العولمة والثورة المعلوماتية والتكنولوجية في العقود القليلة الماضية أصبحت المعرفة القاطرة الأساسية للتنافسية، والعامل الأهم في إعادة تشكيل خريطة العالم وأنماط النمو الاقتصادي والنشاط الإنساني علي ظهر الكرة الأرضية. وإزاء هذه التطورات الدراماتيكية أصبح من المتعين علي جميع البلدان، متقدمة ونامية علي حد سواء، أن تفكر مليا، وبسرعة لا تحتمل الإرجاء أو التسويف، في مستقبلها في ضوء اقتصاد المعرفة. الرسالة الثانية: أن الوصول إلي اقتصاد المعرفة بنجاح يتطلب من جميع البلدان أن تفكر - وتعمل - في أربع دعائم متلازمة ومتزامنة: هذه الأعمدة الأربعة لاقتصاد المعرفة هي: 1- إطار مؤسسي يكفل التأسيس الكفء والاستعمال الجدي للمعرفة. 2- قوة عمل مستعلمة تعليما جيدا ومستمراً، وتطور مهاراتها بدون توقف. 3- نظام لتعزيز الابتكار والابداع سواء للأفراد أو الشركات أو المؤسسات الأكاديمية والبحثية التي توجد المعرفة وتشيعها. 4- بنية تحتية معلوماتية تتماشي مع ثورة الاتصال وتساعد علي استيعاب ومعالجة المعرفة. ويمكن إعادة صياغة هذه الأعمدة الأربعة علي النحو التالي: 1- قاعدة تعليمية صلبة. 2- نظام كفء لتشجيع الابتكار 3- بنية تحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصال 4- بناء نظام اقتصادي ومؤسسي كفء. والسياسات التي يتم انتهاجها بالنسبة لكل من هذه الأعمدة متدرجة بالطبع وتعكس مستوي التنمية في هذا البلد أو ذاك. ومع ذلك فإن التجارب تبين لنا أن بعض اقتصادات المعرفة الناجحة استطاعت أن تحقق قفزات وطفرات مدهشة في غضون سنوات معدودات اقل من عشر سنوات في بعض الحالات. الرسالة الثالثة أن العديد من البلدان، إن لم يكن كلها، التي حققت تقدما سريعا قد تبنت برامج للتغيير نحو اقتصاد المعرفة علي المستوي الوطني، ورغم تباين الخبرات بين هذا البلد أو ذاك فإن هناك قواسم مشتركة بين كل هذه التجارب الناجحة، وأهم هذه القواسم المشتركة هي: 1- ضرورة توافر التفاف وطني حول برنامج الوصول إلي اقتصاد المعرفة، وهو الالتفاف الذي لا يمكن أن يتحقق بدون الثقة والتماسك. 2- ضرورة العمل لبناء الأعمدة الأربعة المشار إليها من خلال مجموعة مترابطة من الاصلاحات من أعلي إلي أسفل، والمبادرات من أسفل إلي أعلي. 3- ضرورة وجود "رؤية" شاملة لاقتصاد المعرفة. فما الذي يتوافر لدينا - في مصر - من هذه المقومات اللازمة لتطوير اقتصادنا من اقتصاد معتمد علي الموارد إلي اقتصاد قائم علي المعرفة. وما الذي نفتقر إليه؟ وكيف نوفره؟ ومتي؟ إجابات الملتقي الفكري المهم الذي شهدته مكتبة الإسكندرية في الفترة من 17 إلي 21 مايو الحالي، هي موضوع مقالنا القادم.