الإخوان والسلفيون يحاربون الدولة المدنية، ويرفعون شعار «الدولة الدينية» المعتمدة علي التراث الإسلامي.. وهم يذكروننا بسيطرة الكاثوليكية في العصور الوسطي، علي مقدرات الشعوب الأوروبية، وخصوصا في إيطاليا وإسبانيا حيث كثرت أحكام الإعدام. سمع الناس جميعا عن القديسة الفرنسية الشهيرة جان دارك، والتي أحرقتها محاكم التفتيش الدينية.. لكن يندر أن يسمع أحد عن الشهيدة العربية الأندلسية «سليمة بنت جعفر» والتي هي حفيدة أبي جعفر الوراق الغرناطي، الذي كان مولعا بالكتب، ويهوي جمعها وبيعها «ومن هنا أخذ لقبه أباجعفر الوراق» كانت «سليمة» طفلة حين استولي القشتاليون، ومعهم محاكم التفتيش، علي غرناطة «جرانادا»، أحبت سليمة الكتب مثل جدها أبي جعفر، الذي رباها بعد أن قتلت محاكم التفتيش أباها، وشهدت - في طفولتها - محرقة الكتب العربية الإسلامية في ساحة باب الرملة في غرناطة، وكان جدها قد أخفي أثمن الكتب عن محاكم التفتيش الكاثوليكية.. أمضت سليمة ليلها ونهارها في استظهار الكتب الطبية العربية، التي ظل العالم يعتمد عليها حتي أواخر القرن الثامن عشر.. جعلت سليمة من غرفة نومها معملا للأدوية واشتهرت سليمة «بحكيمة غرناطة». وانتبهت إليها محاكم التفتيش والإرهاب الكاثوليكي المقدس.. واتهمت سليمة بالسحر، وسيقت إلي محكمة التفتيش.. وكان يرأس المحكمة قاض لاهوتي واثنان من المحققين الذين يؤمنون بتعذيب السحرة وإحراقهم، وصدر عن المحكمة قرار لايزال محفوظا بمكتبة «الاسكوربال» «مدريد»: «إنه في عام سبعة وعشرين وخمسمائة وألف من ميلاد المسيح، وفي اليوم الخامس عشر من شهر مايو وبحضورنا نحن: أنطونيو أجابيدا القاضي بديوان التحقيق، وألفونسو ماديرا المحقق، وميجيل أجيلار المحقق في الديوان العام، بدأ التحقيق فيما شاع ونما إلي علمنا من أن «جلوريا ألفاريز» واسمها القديم «سليمة بنت جعفر» تمارس السحر الأسود، وتحوز في بيتها ما يدعو إلي الشبهة من بذور ونباتات وتراكيب شيطانية، تستخدمها في إيذاء الناس.. ونثبت نحن المحققين - بعد القسم علي الأناجيل الأربعة - بأن سليمة بنت جعفر صارت مسيحية، وغيرت اسم أمها، من «أم حسن» إلي «ماريا بلانكا» وعمد زوجها سعد المالقي باسم «كارلوس مانويل» أما ابنتها «عائشة» فصارت «بيرانزا» ودوهم بيت سليمة، وتم الاستيلاء علي كتبها ومعملها، وسئلت سليمة: هل تؤمنين بالشيطان؟ فردت: «لا أعتقد أن للشيطان وجودا، وكل ما يحدث للناس مرده مرض الجسد أو العقل» وعلق القاضي الكاثوليكي بقوله: «إن تهمة إنكار الشيطان - وحدها - كافية لحرقها بعد تعذيبها لشفاء روحها» ثم عاد القاضي فسألها: «هل تسري في الليل عبر المسافات علي ظهر دابة؟» فكان جوابها: «أنا لم أسمع أن بشرا حدث له ذلك سوي محمد نبي المسلمين» فسألها القاضي: «هل حدث ذلك فعلا؟» فقالت: «لقد تعمدت وصرت نصرانية» فقال القاضي - موجها الحديث للحضور - «لقد تعمدت لكنها لم تتخل عن دينها المحمدي» ثم نطق القاضي بالحكم: «اجتمع المجلس الموقر من علماء اللاهوت والناطقين باسم الكنيسة الكاثوليكية، وبعد المناقشات والمداولات، توصلنا إلي أنك المدعوة «جلوريا ألفاريز».. توصلنا إلي أنك كافرة، وحكمنا عليك بالتعذيب للتطهير ثم الحرق» وعريت سليمة وجري بهدلة ثدييها -«البهدلة» هي دائرة ارتكاز الثدي علي الصدر «عند الرجال والنساء» وصارت «البهدلة» تعني تعليق المتهم من ساقيه، ثم قطع ثدييه «رجلا كان أو امرأة» ثم تشعل النيران أسفل منه، فيموت غريقا بدمه، حريقا بالنار.. والعامية المصرية تستخدم الكلمة بمعني عام - وهي معلقة من رجليها، وسال دمها، وأشعلت الأخشاب والحطب أسفل منها وأحرقت. ومن الذين أسهموا إسهاما إنسانيا عظيما في القضاء علي الدولة الدينية وإحلال الدولة المدنية محلها مارتن لوثر «أواخر العصور الوسطي المسيحية وصاحب المذهب البروتستانتي أو الإنجيلي، ولد سنة 1483م وتوفي سنة 1546).. إن المذهب البروتستانتي، الذي أقامه مارتن لوثر، قضي علي استبداد وتحكم رجال الدين الكاثوليك، وقضي علي الدولة الدينية، وقامت - بعد مارتن لوثر - الدول الأوروبية المدنية الحديثة. قامت في ألمانيا اللوثرية ثورات الفلاحين الشهيرة المناهضة للكاثوليكية والمؤمنة بمدنية الدولة الحديثة.. وكانت الكاثوليكية تعتبر الفلاحين عبيدا، وتحرمهم من الصيد في الغابة أو من الأنهار والبحار.. كذلك كان الفلاحون يعملون بلا أجر لدي السيد الإقطاعي، وكانوا يقطعون من الغابة الأخشاب التي يحتاجها السيد الإقطاعي لمنزله أو لحاجاته، بينما كان الفلاحون لا حق لهم في أخشاب الغابة.. كذلك كان من حق السيد الإقطاعي الاستيلاء علي منزل الفلاح الذي يموت ويطرد أرامل ذلك الفلاح وأيتامه حتي يأكلهم السل.. وأدي هذا كله إلي حرب الثلاثين عاما (1618 - 1648) التي قتل فيها ثلث الشعب الألماني. وليس من المألوف في الدنيا أن يكسب صاحب المبدأ، وأن يخسر الأفاق المتآمر المتلاعب.. لقد استطاع معاوية، الباحث عن دور، يسانده بنو أمية وعمرو بن العاص، استطاع أن ينتصر علي الإمام «علي» صاحب المبادئ والقيم.. وقتل ابن ملجم الإمام علي.. كذلك فإن محمد بن عبدالوهاب يري معاوية أولي بالحكم من الإمام علي.. ومحمد بن عبدالوهاب، والدولة السعودية، يسيطر فكرهم علي شعب ساذج يحلم بجنة عرضها السماوات والأرض.. وأعتقد أن الوهابيين والسعوديين يؤمنون ويساندون الإخوان والسلفيين. الإخوان والسلفيون لا يهمهم الدين، بل يتخذون الدين وسيلة يصلون بها إلي دور سياسي، كما أن اعتمادهم الأساسي علي البسطاء، الذين يتصورون صدق الإخوان والسلفيين. ينسب إلي رسول الإسلام أنه سمح بالزواج المؤقت يوم فتح مكة، ثم عاد فألغاه، بينما أتباع الإمام علي لم يسمعوا منه أن الرسول قد ألغاه، لهذا ثبت لدي أطراف مختلفة آراء مختلفة.. ونفس هذا الأمر حدث في بعض آراء مارتن لوثر.. ابتعد مارتن لوثر عن العهد القديم والتلمود «أهم شرح للعهد القديم» وأنكر لوثر مآخذ أخذت علي إبراهيم وداود وسليمان «ومسجلة في العهد القديم» وأنكر سفر الجامعة المنسوب لسليمان، والذي يبدأ بقول سليمان: «باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح وحصاد الهشيم وليس بعد هذه الحياة حياة».. كذلك رفض مارتن لوثر ما جاء في العهد القديم حول ابنتي لوط اللتين أسكرتا والدهما وحملتا منه. إن ما يدعو إليه الإخوان والسلفيون، عودة إلي العصور الوسطي وكأن «العقل» الذي آمن به مارتن لوثر وتصديه لنهايات العصور الوسطي، كأن ذلك «العقل» قد استغني عنه الإخوان والسلفيون، ويعتمدون علي البسطاء والسذج حتي يعودوا إلي ظلمات العصور الوسطي.. ولو حدث أن وصل الإخوان والسلفيون إلي الحكم، فإن معني هذا، أن تمر مصر بفترة أطول من فترة الحزب الوطني، حتي يستطيع البسطاء أن يدركوا حقيقة الإخوان والسلفيين.. وساعتها، فقد يسعي البسطاء إلي التخلص من الإخوان والسلفيين، مثلما حدث لأوروبا في منتصف العصور الوسطي، حيث كانت حركات شبابية صاعدة تقوم بقتل القساوسة والكهنة في داخل المدن الأوروبية، مما اضطر الآباء والكهنة أن يلوذوا بالكنائس، وأن يبتعدوا عن الناس، وأن يؤمنوا بالحكومة المدنية.